الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (6)

قوله تعالى : { فِي الأَرْحَامِ } : يجوزُ أن يتعلَّق بَيُصَوِّرُكم وهو الظاهُر ، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من مفعولِ " يُصَوِّركم " أي : يُصَوِّركم وأنتم في الأرحامِ مُضَغُ .

وقرأ طاووس : " تَصَوَّركم " فعلاً ماضياً ومعناه صَوَّركم لنفسِه ولتعبُّدِه ، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعَّل كقولهم : " تأثَّلْثُ مالاً وأثَّلته " أي جعلتُه أَثْلَةً أي أصلاً ، ونحُوه : وَلَّى وتَوَلَّى . والتصويرُ : تَفْعِيل من صارَه يَصُوره أي : أماله وثَنَاه ، ومعنى صَوَّره أي : جعل له صورةً . والصورة : الهيئة يكون عليها الشيءُ من تأليفٍ خاصٍ وتركيبٍ منضبطٍ .

قوله : { كَيْفَ يَشَآءُ } في هذه الآية أوجهٌ ، أظهُرها : أن " كيف " للجزاءِ ، وقد جُوزي بها في لسانهم في قولِهم : " كيفَ تَصْنَعُ أصنعُ ، وكيف تكونَ أكونُ " إلا أنه لا يجزم بها ، وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ ما قبلَها ، وكذلك مفعولٌ " يشاء " لِما تقدَّم أنه لا يُذْكَرُ إلا لغرابةٍ ، والتقديرُ : كيف يشاء تصويرَكم يصوِّرُكم ، فَحُذِف " تصويركم " لأنه مفعولُ يشاء ، و " يصوركم " لدلالة " يصوركم " الأول عليه ، ونظيره قولُهم : " أنت ظالم إنْ فعلْتَ " تقديره : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم . وعند مَنْ يُجيز تقديمَ الجزاء في الشرط الصريح يَجْعَلُ " يصوِّركم " المتقدم هو الجزاء .

و " كيف " منصوبٌ على الحال بالفعلِ بعدَه ، والمعنى : على أيِّ حال شاءَ أنْ يُصَوِّركم صوَّركم ، وتقدَّم الكلام على ذلك في قولِه : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ }

[ البقرة : 28 ] . ولا جائزٌ أن تكون " كيف " معمولةً ليُصَوِّركم لأنَّ لها صدرَ الكلام ، وما له صدُر الكلام لا يعملُ فيه إلا أحدُ شيئين : إمَّا حرفُ الجر نحو : بمَنْ تمر ؟ وإمَّا المضافُ نحو : " غلامُ مَنْ عندك ؟ " الثاني : أن تكون " كيف " ظرفاً ليشاء ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير اسم الله تعالى تقديرُه : يصوِّركم على مشيئة أي مريداً . الثالث : كذلك إلا أنه حالٌ من مفعول " يصوِّركم " تقديرُه : يصوركم متقلبين على مشيئته . ذَكَر الوجهين أبو البقاء ، ولَمَّا ذَكَرَ غيُره كونَها حالاً من ضمير اسمِ الله قَدَّرها بقولِه : يُصَوِّركم في الأرحامِ قادراً على تصويركم مالكاً ذلك . الرَابعُ : أَنْ تكونَ الجملةُ في موضعِ المصدرِ ، المعنى : يُصَوِّركم في الأرحام تصويرَ المشيئة وكما يشاء ، هكذا قال الحوفي . وفي قوله : " الجملةُ في موضعِ المصدرِ " تسامحٌ لأنَّ الجملَ لا تقوم مقام المصادر ، ومرادُه أنَّ " كيف " دالَّةٌ على ذلك ، ولكن لَمَّا كانَتْ في ضمن الجملةِ نَسَبَ ذلكَ إلى الجملة . وقوله { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ } : تحتملُ هذه الجملةُ أن تكونَ مستأنفةً سيقت لمجرد الإِخبار بذلك ، وأن تكونَ في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً لإِنَّ .