جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (6)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

يعني بذلك جلّ ثناؤه : الله الذي يصوّركم فيجعلكم صورا أشباحا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحبّ ، فيجعل هذا ذكرا وهذا أنثى ، وهذا أسود وهذا أحمر . يعرّف عباده بذلك أن جميع من اشتملت عليه أرحام النساء ممن صوّره وخلقه كيف شاء ، وأن عيسى ابن مريم ممن صوّره في رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحبّ ، وأنه لو كان إلها لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه ، لأن خلاّق ما في الأرحام لا تكون الأرحام عليه مشتملة ، وإنما تشتمل على المخلوقين . كما :

حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْف يَشاءُ } قد كان عيسى ممن صُوّر في الأرحام ، لا يدفعون ذلك ، ولا ينكرونه ، كما صور غيره من بني آدم ، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل ؟

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { هُوَ الّذِي يُصوّرَكُمْ فِي الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ } أي أنه صور عيسى في الرحم كيف شاء .

وقال آخرون في ذلك ، ما :

حدثنا به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله : { هُو الّذِي يُصوّرُكُمْ في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ } قال : إذا وقعت النطفة في الأرحام ، طارت في الجسد أربعين يوما ، ثم تكون علقة أربعين يوما ، ثم تكون مضغة أربعين يوما ، فإذا بلغ أن يخلق بعث الله ملكا يصوّرها ، فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه ، فيخلطه في المضغة ثم يعجنه بها ثم يصوّرها كما يؤمر ، فيقول : أذكر أو أنثى ، أشقيّ أو سعيد ، وما رزقه ، وما عمره ، وما أثره ، وما مصائبه ؟ فيقول الله ، ويكتب الملك . فإذا مات ذلك الجسد ، دفن حيث أخذ ذلك التراب .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { هُوَ الّذِي يُصوّرُكُمْ في الأرْحَامِ كَيْف يَشاءُ } قادر والله ربنا أن يصوّر عباده في الأرحام كيف يشاء من ذكر أو أنثى ، أو أسود أو أحمر ، تام خلقه وغير تام .

القول في تأويل قوله تعالى : { لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكيمُ } .

وهذا القول تنزيه من الله تعالى ذكره نفسه أن يكون له في ربوبيته ندّ أو مثل أو أن تجوز الألوهة لغيره ، وتكذيب منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى ، ولجميع من ادّعى مع الله معبودا ، أو أقرّ بربوبية غيره . ثم أخبر جل ثناؤه خلقه بصفته وعيدا منه لمن عبد غيره أو أشرك في عبادته أحدا سواه ، فقال : { هُوَ الْعَزِيزُ } الذي لا ينصر من أراد الانتقام منه أحد ، ولا ينجيه منه وأْلٌ ولا لَجَأٌ ، وذلك لعزّته التي يذلّ لها كل مخلوق ، ويخضع لها كل موجود . ثم أعلمهم أنه الحكيم في تدبيره ، وإعذاره إلى خلقه ، ومتابعة حججه عليهم ، ليهلك من هلك منهم عن بينة ، ويحيا من حيّ عن بينة . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : ثم قال : يعني الربّ عزّ وجلّ إنزاها لنفسه ، وتوحيدا لها مما جعلوا معه { لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } قال : العزيز في نصرته ممن كفر به إذا شاء ، والحكيم في عذره وحجته إلى عباده .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } يقول : عزيز في نقمته ، حكيم في أمره .