{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }
أي : ولقد تقرر عندكم حالة { الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ } وهم الذين ذكر الله قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف في قوله : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } الآيات .
فأوجب لهم هذا الذنب العظيم ، أن غضب الله عليهم وجعلهم { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } حقيرين ذليلين .
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( 65 )
{ علمتم } معناه : عرفتم ، كما تقول : علمت زيداً بمعنى عرفته ، فلا يتعدى العلم( {[735]} ) إلا إلى مفعول واحد ، و { اعتدوا } معناه تجاوزوا الحد ، مصرف( {[736]} ) من الاعتداء ، و { في السبت } معناه في يوم( {[737]} ) السبت ، ويحتمل أن يريد في حكم السبت ، و { السبت }( {[738]} ) مأخوذ إما : من السبوت الذي هو الراحة والدعة ، وإما من السبت وهو : القطع ، لأن الأشياء فيه سبتت وتمت( {[739]} ) خلقتها .
وقصة اعتدائهم فيه ، أن الله عز وجل أمر موسى عليه السلام بيوم الجمعة ، وعرفه فضله ، كما أمر به سائر الأنبياء ، فذكر موسى عليه السلام ذلك لبني إسرائيل عن الله تعالى وأمرهم بالتشرع فيه( {[740]} ) ، فأبوا وتعدوه إلى يوم السبت ، فأوحى الله إلى موسى أن دعهم وما اختاروا من ذلك ، وامتحنهم فيه بأن أمرهم بترك العمل وحرم عليهم صيد الحيتان ، وشدد عليهم المحنة بأن كانت الحيتان تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية . قاله الحسن بن أبي الحسن . وقيل حتى تخرج خراطيمها من الماء ، وذلك إما بالإلهام( {[741]} ) من الله تعالى ، أو بأمر لا يعلل ، وإما بأن فهمها معنى الأمنة( {[742]} ) التي في اليوم مع تكراره حتى فهمت ذلك ، ألا ترى أن الله تعالى قد ألهم الدواب معنى الخوف الذي في يوم الجمعة من أمر القيامة ، يقضي بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : «وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقاً من الساعة »( {[743]} ) ، وحمام مكة قد فهم الأمنة ، إما أنها متصلة( {[744]} ) بقرب فهمها .
وكان أمر بني إسرائيل بأيلة( {[745]} ) على البحر ، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان فلم تظهر إلى السبت الآخر ، فبقوا على ذلك زماناً حتى اشتهوا الحوت ، فعمد رجل يوم السبت فربط حوتاً بخزمة( {[746]} ) ، وضرب له وتداً بالساحل ، فلما ذهب السبت جاءَ وأخذه ، فسمع قوم بفعله فصنعوا مثل ما صنع ، وقيل بل حفر رجل في غير السبت حفيراً يخرج إليه البحر ، فإذا كان يوم السبت خرج الحوت وحصل في الحفير ، فإذا جزر البحر ذهب الماء من طريق الحفير وبقي الحوت ، فجاء بعد السبت فأخذه ، ففعل قوم مثل فعله ، وكثر ذلك حتى صادوه يوم السبت علانية ، وباعوه في الأسواق ، فكان هذا من أعظم الاعتداء ، وكانت من بني إسرائيل فرقة نهت عن ذلك فنجت من العقوبة ، وكانت منهم فرقة لم تعص ولم تنه ، فقيل نجت مع الناهين ، وقيل هلكت مع العاصين .
و { كونوا } لفظة أمر ، وهو أمر التكوين ، كقوله تعالى لكل شيء : { كن فيكون } [ النحل : 40 مريم : 35 ، يس : 82 ، غافر : 68 ] ، ولم يؤمروا في المصير إلى حال المسخ بشيء يفعلونه ولا لهم فيه تكسب .
و { خاسئين } معناه مبعدين أذلاء صاغرين ، كما يقال للكلب وللمطرود اخساً . تقول خسأته فخسأ ، وموضعه من الإعراب النصب على الحال أو على خبر بعد خبر .
وروي في قصصهم أن الله تعالى مسخ العاصين { قردة } بالليل فأصبح الناجون إلى مساجدها ومجتمعاتهم ، فلم يروا أحداً من الهالكين ، فقالوا إن للناس لشأناً ، ففتحوا عليهم الأبواب كما كانت مغلقة بالليل ، فوجدوهم { قردة } يعرفون الرجل والمرأة ، وقيل : إن الناجين كانوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار ، تبرياً منهم ، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين ، فتسوروا عليهم الجدار فإذا هم قردة ، يثب بعضهم على بعض .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عن أن المسوخ( {[747]} ) لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام( {[748]} ) ؛ ووقع في كتاب( {[749]} ) مسلم عنه عليه السلام أن أمة من الأمم فقدت ، وأراها الفأر ، وظاهر هذا أن الممسوخ ينسل ، فإن كان أراد هذا فهو ظن منه عليه السلام في أمر لا مدخل له في التبليغ ، ثم أوحي إليه بعد ذلك أن الممسوخ لا ينسل ، ونظير ما قلناه نزوله عليه السلام على مياه بدر ، وأمره باطراح تذكير النخل ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «إذا أخبرتكم برأي في أمور الدنيا فإنما أنا بشر »( {[750]} ) .
وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط وردّت أفهامهم كأفهام القردة ، والأول أقوى وأظهر( {[751]} ) .