9- والله - وحده - هو الذي أرسل الرياح فتحرك سحابا تراكم من أبخرة الماء ، فسقنا السحاب إلى بلد مجدب ، فأحيينا أرضه بالنبات بعد موتها ، مثل إخراجنا النبات من الأرض نُخرج الموتى من القبور يوم القيامة{[183]} .
{ 9 } { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ }
يخبر تعالى عن كمال اقتداره ، وسعة جوده ، وأنه { أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ } فأنزله اللّه عليها { فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }
فحييت البلاد والعباد ، وارتزقت الحيوانات ، ورتعت في تلك الخيرات ، { كَذَلِكَ } الذي أحيا الأرض بعد موتها ، ينشر الله الأموات من قبورهم ، بعدما مزقهم البلى ، فيسوق إليهم مطرا ، كما ساقه إلى الأرض الميتة ، فينزله عليهم فتحيا الأجساد والأرواح من القبور ، ويأتون للقيام بين يدي الله ليحكم بينهم ، ويفصل بحكمه العدل .
كثيرا ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها - كما في [ أول ]{[24471]} سورة الحج - ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك ، فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها ، فإذا أرسل إليها{[24472]} السحاب تحمل الماء وأنزله عليها ، { اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] ، كذلك الأجساد{[24473]} ، إذا أراد الله سبحانه بعثها ونشورها ، أنزل من تحت العرش مطرا يعم{[24474]} الأرض جميعًا فتنبت الأجساد في قبورها كما ينبت{[24475]} الحب في الأرض ؛ ولهذا جاء في الصحيح : " كل ابن آدم يبلى إلا عَجْب الذَّنَب ، منه خلق ومنه يركب " ؛ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ النُّشُورُ } .
وتقدم في " الحج " {[24476]} حديث أبي رَزِين : قلت : يا رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى ؟ وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : " يا أبا رزين ، أما مررت بوادي قومك محْلا{[24477]} ثم مررت به يهتز خَضِرًا ؟ " قلت : بلى . قال : «فكذلك يحيي الله الموتى » .
هذه آية احتجاج على الكفرة في إنكار البعث من القبور ، فدلهم تعالى على المثال الذي يعاينونه وهو سواء مع إحياء الموتى ، و «البلد الميت » هو الذي لا نبت فيه قد اغبر من القحط فإذا أصابه الماء من السحاب اخضر وأنبت فتلك حياته ، و { النشور } مصدر نشر الميت إذا حيي ، ومنه قول الأعشى :
يا عجبا للميت الناشر{[9694]} . . .
لما قدم في أول السورة الاستدلال بأن الله فطر السماوات والأرض وما في السماوات من أهلها وذلك أعظم دليل على تفرده بالإِلهية ثنّي هنا بالاستدلال بتصريف الأحوال بين السماء والأرض وذلك بإرسال الرياح وتكوين السحاب وإنزال المطر ، فهذا عطف على قوله : { فاطر السماوات والأرض } [ فاطر : 1 ] .
وإظهار اسم الجلالة في مقام الإِضمار دون أن يقول وهو الذي أرسل الرياح فيعود الضمير إلى اسم الله من قوله : { إن الله عليم بما يصنعون } [ فاطر : 8 ] .
واختير من دلائل الوحدانية دلالة تجمع أسباب المطر ليفضي من ذلك إلى تنظير إحياء الأموات بعد أحوال الفناء بآثار ذلك الصنع العجيب وأن الذي خلق وسائل إحياء الأرض قادر على خلق وسائل إحياء الذين ضمنتهم الأرض على سبيل الإِدماج .
وإذ قد كان القصد من الاستدلال هو وقوع الإِحياء وتقرر وقوعه جيء بفعل الماضي في قوله : { أرسل } . وأما تغييره إلى المضارع في قوله : { فتثير سحاباً } فلحكاية الحال العجيبة التي تقع فيها إثارة الرياح السحابَ وهي طريقة للبلغاء في الفعل الذي فيه خصوصية بحال تستغرب وتهم السامع . وهو نظير قول تأبط شرًّا :
بأني قد لَقيت الغول تهوي *** بسَهب كالصحيفة صَحْصَحان
فأَضرِبُها بلا دهش فخرت *** صريعاً لليدين وللجِـــرَان
فابتدأ ب ( لقيت ) لإِفادة وقوع ذلك ثم ثنى ب ( أضربها ) لاستحضار تلك الصورة العجيبة من إقدامه وثباته حتى كأنهم يبصرونه في تلك الحالة . ولم يؤت بفعل الإِرسال في هذه الآية بصيغة المضارع بخلاف قوله في سورة الروم ( 48 ) { الله الذي يرسل الرياح } الآية لأن القصد هنا استدلال بما هو واقع إظهاراً لإِمكان نظيره وأما آية سورة الروم فالمقصود منها الاستدلال على تجديد صنع الله ونعمه .
والقول في الرياح والسحاب تقدم غير مرة أولاها في سورة البقرة .
وفي قوله : { فسقناه } بعد قوله : { الله الذي أرسل الرياح } التفاوت من الغيبة إلى التكلم .
وقوله : { كذلك النشور } سبيله سبيل قوله : { يا أيها الناس إن وعد الله حق } [ فاطر : 5 ] الآيات من إثبات البعث مع تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عنه ، إلا أن ما قبله كان مأخوذاً من فحوى الدلالة لما ظهرت في برهان صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من توحيد أخذ من طريق دلالة التقريب لوقوع البعث إذ عسر على عقولهم تصديق إمكان الإِعادة بعد الفناء ليحصل من بارقة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وبارقة الإِمكان ما يسوق أذهانهم إلى استقامة التصديق بوقوع البعث .
والإِشارة في قوله : { كذلك النشور } إلى المذكور من قوله : { فأحيينا به الأرض } . والأظهر أن تكون الإِشارة إلى مجموع الحالة المصورة ، أي مثل ذلك الصنع المحكم المتقن نصنع صنعاً يكون به النشور بأن يهيّىء الله حوادث سماوية أو أرضية أو مجموعة منهما حتى إذا استقامت آثارها وتهيأت أجسام لقبول أرواحها أمر الله بالنفخة الأولى والثانية فإذا الأجساد قائمة ماثلة نظير أمرِ الله بنفخ الأرواح في الأجنة عند استكمال تهيئها لقبول الأرواح .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم تقريب ذلك بمثل هذا مما رواه أحمد وابن أبي شيبة وقريب منه في « صحيح مسلم » عن عروة بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " قيل لرسول الله : كيف يُحْيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال : هل مررتَ بوادٍ أُهْلِكَ ممحلاً ثم مررتَ به يهتزُ خَضِراً ؟ قيل : نعم . قال : فكذلك يَحيِي الله الموتى وتلك آيته في خلقه " . وفي بعض الروايات عن أبي رزين العقيلي أن السائل أبو رزين .
وقرأ الجمهور { الرياح } بصيغة الجمع . وقرأ حمزة والكسائي « الريح » بالإِفراد ، والمعرّف بلام الجنس يستوي فيه المفرد والجمع .