{ لإيلافِ قُرَيْشٍ } أي : لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين .
وقيل : المراد بذلك ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام في المتاجر وغير ذلك ، ثم يرجعون إلى بلدهم آمنين في أسفارهم ؛ لعظمتهم عند الناس ، لكونهم سكان حرم الله ، فمن عَرَفهم احترمهم ؛ بل من صوفي إليهم وسار معهم أمن بهم . هذا{[30554]} حالهم في أسفارهم ورحلتهم في شتائهم وصيفهم . وأما في حال إقامتهم في البلد ، فكما قال الله : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ولهذا قال : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } بدل من الأول ومفسر له . ولهذا قال : { إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ }
وقال ابن جرير : الصواب أن " اللام " لام التعجب ، كأنه يقول : اعجبوا لإيلاف قريش ونعمتي عليهم في ذلك . قال : وذلك لإجماع المسلمين على أنهما سورتان منفصلتان مستقلتان{[30555]} .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي : { لإيلاف قريش إيلافهم } على إفعال ، والهمزة الثانية ياء ، وقرأ ابن عامر «لإلآف » على فعال { إيلافهم } على إفعال بياء في الثانية ، وقرأ أبو بكر عن عاصم : بهمزتين فيهما الثانية ساكنة ، قال أبو علي : وتحقيق عاصم هاتين الهمزتين لا وجه له ، وقرأ أبو جعفر : «إلْفهم » بلام ساكنة ، و { قريش } ولد النضر بن كنانة ، والتقرش : التكسب ، وتقول : ألف الرجل الأمر وآلفه غيره ، فالله عز وجل آلف قريشاً ، أي جعلهم يألفون رحلتين في العام : رحلة في الشتاء وأخرى في الصيف ، ويقال أيضاً : ألف بمعنى آلف ، وأنشد أبو زيد : [ الطويل ]
من المؤلفات الرمل أدماء حرة . . . شعاع الضحى في جيدها يتوضح{[11995]}
فألف وإلاف مصدر ألف ، و «إيلاف » مصدر آلف ، قال بعض الناس : كانت الرحلتان إلى الشام في التجارة ، وقيل : الأرباح ، ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
سفرين بينهما له ولغيره . . . سفر الشتاء ورحلة الأصياف{[11996]}
وقال ابن عباس : كانت { رحلة الشتاء } إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى بصرى من أرض الشام ، قال أبو صالح : كانت جميعاً إلى الشام ، وقال ابن عباس أيضاً : كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل ، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم ، فهاتان رحلتا الشتاء والصيف ، قال الخليل بن أحمد : فمعنى الآية : لأن فعل الله بقريش هذا ومكنهم من إلفهم هذه النعمة { فليعبدوا رب هذا البيت } .
قال القاضي أبو محمد : وذكر البيت هنا متمكن لتقدم حمد الله في السورة التي قبل ، وقال الأخفش ، وغيره : { لإيلاف } ، متعلقة بقوله : { فجعلهم كعصف مأكول } [ الفيل : 5 ] ، أي ليفعل بقريش هذه الأفاعيل الجميلة ، وقال بعض المفسرين : معنى الآية : أعجبوا { لإيلاف قريش } ، هذه الأسفار وإعراضهم عن عبادة الله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ رِحْلَةَ الشّتاءِ وَالصّيْفِ } يقول : رحلة قريش الرحلتين ، إحداهما إلى الشام في الصيف ، والأخرى إلى اليمن في الشتاء . ...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة : إحداهما في الشتاء إلى اليمن ؛ لأنها أدفأ ، والأخرى في الصيف إلى الشام . وكان الحرم وادياً جدباً لا زرع فيه ولا ضرع ، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ، وكان لا يتعرض لهم أحد بسوء ، كانوا يقولون : قريش سكان حرم الله وولاة بيته ، فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ...
واعلم أن وجه النعمة والمنة فيه أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا ، لترك أهل الأقطار تعظيمهم وأيضا لتفرقوا وصار حالهم كحال اليهود المذكور في قوله : { وقطعناهم في الأرض أمما } واجتماع القبيلة الواحدة في مكان واحد أدخل في النعمة من أن يكون الاجتماع من قبائل شتى ، ونبه تعالى أن من شرط السفر المؤانسة والألفة ، ومنه قوله تعالى : { ولا جدال في الحج } والسفر أحوج إلى مكارم الأخلاق من الإقامة ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ إيلافهم } أي إيلافنا إياهم { رحلة الشتاء } التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن ؛ لأنها بلاد حارة ينالون بها متاجر الجنوب { والصيف } التي يرحلونها إلى الشام في زمنه ؛ لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الشمال ، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المكرم المعظم ببيت الله ، والناس يتخطفون من حولهم ، ففعل الله تعالى بأصحاب الفيل ما فعل ليزداد العرب لهم هيبة وتعظيماً ، فتزيد في إكرامهم لما رأت من إكرام الله تعالى لهم ، فيكون لهم غاية التمكن في رحلتهم ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى الآية تذكير قريش بنعمة الله عليهم إذ يسر لهم ما لم يتأت لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين وغارات المغيرين في السنة كلها بما يسر لهم من بناء الكعبة وشرعة الحج وأن جعلهم عمار المسجد الحرام وجعل لهم مهابة وحرمة في نفوس العرب كلهم في الأشهر الحرم وفي غيرها . وعند القبائل التي تحرِّم الأشهر الحُرم والقبائلِ التي لا تحرّمها مثل طيء وقضاعة وخثعم ، فتيسرت لهم الأسفار في بلاد العرب من جنوبها إلى شمالها ، ولاذ بهم أصحاب الحاجات يسافرون معهم ، وأصحاب التجارات يحمِّلونهم سلعهم ، وصارت مكة وسطاً تُجلب إليها السلع من جميع البلاد العربية فتوزع إلى طالبيها في بقية البلاد ، فاستغنى أهل مكة بالتجارة إذ لم يكونوا أهل زرع ولا ضرع إذ كانوا بوادٍ غير ذي زرع وكانوا يجلبون أقواتهم فيجلبون من بلاد اليمن الحبوب من بُرّ وشعير وذُرة وزبيب وأديم وثياب والسيوف اليمانية ، ومن بلاد الشام الحبوب والتمر والزيت والزبيب والثياب والسيوف المشرفية ، زيادة على ما جعل لهم مع معظم العرب من الأشهر الحرم ، وما أقيم لهم من مواسم الحج وأسواقه كما يشير إليه قوله تعالى : { فليعبدوا رب هذا البيت } . فذلك وجه تعليل الأمر بتوحيدهم الله بخصوص نعمة هذا الإِيلاف مع أن لله عليهم نعماً كثيرة لأن هذا الإِيلاف كان سبباً جامعاً لأهم النعم التي بها قوام بقائهم .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
مكّة تقع في واد غير ذي زرع ، والرعي فيها قليل ، لذلك كانت عائدات أهل مكّة غالباً من قوافل التجارة ، في فصل الشتاء يتجهون إلى أرض اليمن في الجنوب حيث الهواء معتدل ، وفي فصل الصيف إلى أرض الشام في الشمال حيث الجوّ لطيف . والشام واليمن كانا من مراكز التجارة آنئذ ، ومكّة والمدينة حلقتا اتصال بينهما . هذه هي رحلة الشتاء . . . ورحلة الصيف . والمقصود ب «إيلافهم » في الآية أعلاه قد يكون جعلهم يألفون الأرض المقدّسة خلال رحلاتهم وينشدّون إليها لما فيها من أمن ، كي لا تغريهم أرض اليمن والشام ، فيسكنون فيها ويهجرون مكّة . وقد يكون المقصود إيجاد الألفة بينهم وبين سائر القبائل طوال مدّة الرحلتين ؛ لأنّ النّاس بدأوا ينظرون إلى قوافل قريش باحترام ، ويعيرونها أهمية خاصّة بعد قصّة اندحار جيش أبرهة . قريش لم تكن طبعاً مستحقة لكل هذا اللطف الإلهي لما كانت تقترفه من آثام ، لكن اللّه لطف بهم لما كان مقدّراً للإسلام والنّبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يظهرا من هذه القبيلة وتلك الأرض المقدّسة . ...