النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ} (2)

{ إيلافِهم رِحْلَةَ الشتاءِ والصَّيْفِ } كانت لقريش في كل عام رحلتان ، والرحلة السفرة ، لما يعانى فيها من الرحيل والنزول : رحلة في الصيف ورحلة في الشتاء طلباً للتجارة والكسب .

واختلف في رحلتي الشتاء والصيف على قولين :

أحدهما : أن كلتا الرحلتين إلى فلسطين ، لكن رحلة الشتاء في البحر ، طلباً للدفء ، ورحلة الصيف على بصرى وأذرعات ، طلباً للهواء ، قاله عكرمة .

الثاني : أن رحلة الشتاء إلى اليمن ؛ لأنها بلاد حامية ، ورحلة الصيف إلى الشام ؛ لأنها بلاد باردة ، قاله ابن زيد .

فإن قيل : فما المعنى في تذكيرهم رحلة الشتاء والصيف ؟ ففيه جوابان :

أحدهما : أنهم كانوا في سفرهم آمنين من العرب ؛ لأنهم أهل الحرم ، فذكرهم ذلك ليعلموا نعمته عليهم في أمنهم مع خوف غيرهم .

الثاني : لأنهم كانوا يكسبون فيتوسعون ويطعمون ويصلون ، كما قال الشاعر فيهم :

يا أيها الرجلُ المحوِّل رَحْلَه *** هَلاَّ نَزَلْتَ بآلِ عبدِ مَنافِ .

الآخذون العهدَ من آفاقِها *** والراحلون لرحلة الإيلافِ .

والرائشون وليس يُوجد رائشٌ *** والقائلون هَلُمَّ للأَضْيافِ .

والخالطون غنيَّهم بفقيرهم *** حتى يصير فقيرُهم كالكافي .

عمرو العلا هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتون عجافِ{[3355]} .

فذكرهم الله تعالى هذه النعمة .

ولابن عباس في رحلة الشتاء والصيف قول ثالث : أنهم كانوا يشتون بمكة لدفئها ، ويصيفون بالطائف لهوائها ، كما قال الشاعر :

تَشْتي بِمكة نعمةً *** ومَصيفُها بالطائِف

وهذه من جلائل النعم : أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء ، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف ، فذكرهم الله تعالى هذه النعمة .


[3355]:مسنتون:أي أصابتهم السنة، وهي الجدب، والقحط. وعجاف: خبر يجب أن يكون مرفوعا لكنه جر لضرورة الشعر كي يناسب القافية.