نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ} (2)

ولما علل بالإيلاف وكان لازماً ومتعدياً ، تقول : آلفت المكان أولفه إيلافاً ، فأنا مؤلف ، وآلفت فلاناً هذا الشيء أي جعلته آلفاً له ، وكان الإتيان بالشيء محتملاً لشيئين ، ثم إبدال أحدهما منه أضخم لشأنه وأعلى لأمره ، أبدل منه قوله : { إلافهم } أي إيلافنا إياهم { رحلة الشتاء * } التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن ؛ لأنها بلاد حارة ينالون بها متاجر الجنوب { والصيف * } التي يرحلونها إلى الشام في زمنه ؛ لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الشمال ، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المكرم المعظم ببيت الله ، والناس يتخطفون من حولهم ، ففعل الله تعالى بأصحاب الفيل ما فعل ليزداد العرب لهم هيبة وتعظيماً ، فتزيد في إكرامهم لما رأت من إكرام الله تعالى لهم ، فيكون لهم غاية التمكن في رحلتهم ، والرحلة بالكسر هيئة الرحيل ، وقرىء بالضم ، وهي الجهة التي يرحل إليها ، وكانوا معذورين لذلك ؛ لأن بلدهم لا زرع به ولا ضرع ، فكانوا إذا ضربوا في الأرض قالوا : نحن سكان حرم الله وولاة بيته ، فلا يعرض أحد بسوء ، فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ، وأول من سن لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف ، وكان يقسم ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم ، وفي ذلك يقول الشاعر :

قل للذي طلب السماحة والندى *** هلا مررت بآل عبد مناف

الرائشين وليس يوجد رائش *** والقائلين هلم للإضياف

والخالطين فقيرهم بغنيهم *** حتى يكون فقيرهم كالكاف

القائلين بكل وعد صادق *** والراحلين برحلة الإيلاف

عمرو العلا هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتون عجاف

سفرين سنّهما له ولقومه *** سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وتبع هاشماً على ذلك إخوته ، فكان هاشم يؤلف إلى الشام ، وعبد شمس إلى الحبشة ، والمطلب إلى اليمن ، ونوفل إلى فارس ، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هذه الإخوة - أي عهودهم - التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي ، وأفرد الرحلة في موضع التثنية لتشمل كل رحلة ، كما هو شأن المصادر وأسماء الأجناس ، إشارة لهم بالبشارة بأنهم يتمكنون عن قريب من الرحلة إلى أي بلد أرادوا ، لشمول الأمن لهم وبهم جميع الأرض بما نشره الله سبحانه وتعالى من الخير في قلوب عباده في سائر الأرض بواسطة هذا النبي الكريم الذي هو أشرفهم وأعظمهم وأجلهم وأكرمهم .