السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ} (2)

وقوله تعالى : { إيلافهم } بدل من الإيلاف الأول ، وقرأ ابن عامر ( لإلاف ) بغير ياء بعد الهمزة ، والباقون لإيلاف بياء بعدها ، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني وهو ( إيلافهم ) بالياء بعد الهمزة . قال ابن عادل : ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين أن القراء اختلفوا في سقوط الياء ، وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطاً ، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منها خطاً ، وهذا أدل دليل على أنّ القراء متبعون الأثر والرواية لا مجرّد الخط . وقوله تعالى : { رحلة الشتاء } منصوب بإيلافهم مفعول به كما نصب يتيماً بإطعام ، وهي التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن ؛ لأنها بلاد حارة ، ينالون منها متاجر الحبوب . { والصيف } التي يرحلونها إلى الشام في زمنه ؛ لأنها بلاد باردة ، ينالون فيها منافع الثمار ، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المعظم وبيت الله ، والناس يتخطفون من حولهم ، ولا يجترئ أحد عليهم .

والإيلاف من قولك : آلفت المكان أولفه إيلافاً إذا بلغته فأنا مؤلف ، والأصل رحلتي الشتاء والصيف ، ولكنه أفرد ليشمل كل رحلة كما هو شأن المصادر وأسماء الأجناس ، وفي ذلك إشارة إلى أنهم يتمكنون من الرحلة إلى أي بلاد أرادوا لشمول الأمن لهم . قال مالك : الشتاء نصف السنة والصيف نصفها .

وقال قوم : الزمان أربعة أقسام : شتاء وربيع وصيف وخريف ، وقيل : شتاء وصيف وقيظ وخريف . قال القرطبي : الذي قاله مالك أصح ؛ لأنّ الله تعالى قسم الزمان قسمين ، ولم يجعل لهما ثالثاً . وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنهم كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف ، وقال آخرون : كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة ، إحداهما : في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ ، والأخرى في الصيف إلى الشام ، وكان الحرم وادياً جدباً لا زرع فيه ولا ضرع ، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ، ولولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ، وأول من سنّ لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف ، وكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم ، وفي ذلك يقول الشاعر :

قل للذي طلب السماحة والندى *** هلا مررت بآل عبد مناف

هلا مررت بهم تريد قراهم *** منعوك من ضر ومن اتلاف

الرائشين وليس يوجد رائش *** والقائلين هلم للأضياف

والخالطين فقيرهم بغنيهم *** حتى يكون فقيرهم كالكافي

والقائلين بكل وعد صادق *** والراحلين برحلة الإيلاف

عمرو العلا هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتون عجاف

سفرين سنهما له ولقومه *** سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وتبع هاشماً على ذلك إخوته ، فكان هاشم يؤالف إلى الشام ، وعبد شمس إلى الحبشة ، والمطلب إلى اليمن ، ونوفل إلى فارس ، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بجاه هذه الإخوة ، أي : بعهودهم التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي .