وقوله : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ } والحق هو ما أوحاه الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فأمره الله أن يقول ويعلن ، قد جاء الحق الذي لا يقوم له شيء ، وزهق الباطل أي : اضمحل وتلاشى .
{ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } أي : هذا وصف الباطل ، ولكنه قد يكون له صولة وروجان إذا لم يقابله الحق فعند مجيء الحق يضمحل الباطل ، فلا يبقى له حراك .
ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنه الخالية من العلم بآيات الله وبيناته .
وقوله : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } تهديد ووعيد لكفار قريش ؛ فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به ، وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع . وزَهَقَ باطلهم ، أي اضمحل وهلك ، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [ الأنبياء : 18 ] .
وقال البخاري : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن أبي{[17803]} مَعْمر ، عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نُصُبٍ ، فجعل يطعنها بعود في يده ، ويقول : { جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } ، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد " {[17804]} .
وكذا رواه البخاري أيضًا في غير هذا الموضع ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، كلهم من طرق عن سفيان بن عيينة به . {[17805]} [ وكذا رواه عبد الرزاق عن الثوري عن ابن أبي نجيح ]{[17806]} .
وكذا رواه الحافظ أبو يعلى : حدثنا زهير ، حدثنا شَبَابة ، حدثنا المغيرة ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر رضي الله عنه ، قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا{[17807]} يعبدون من دون الله . فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها ، وقال : " جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقًا " {[17808]} .
{ وقل جاء الحق } الإسلام { وزهق الباطل } وذهب وهلك الشرك من زهق روحه إذا خرج . { إن الباطل كان زهوقا } مضمحلاً غير ثابت ، عن ابن مسعود رضي الله عنه ( أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة يوم الفتح وفيها ثلثمائة وستون صنما ينكت بمخصرته في عين واحد واحد منها فيقول جاء الحق وزهق الباطل ، فينكب لوجهه حتى ألقى جميعها وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من صفر فقال : يا علي ارم به فصعد فرمى به فكسره ) .
أعقب تلقينه الدعاءَ بسداد أعماله وتأييده فيها بأن لقنه هذا الإعلان المنبىء بحصول إجابة الدعوة المُلْهَمَة بإبراز وعده بظهور أمره في صورة الخبر عن شيء مضى .
ولما كانت دعوة الرسول هي لإقامة الحق وإبطالِ الباطل كان الوعد بظهور الحق وعداً بظهور أمر الرسول وفوزه على أعدائه ، واستحفظه الله هذه الكلمة الجليلة إلى أن ألقاها يوم فتح مكة على مسامع من كانوا أعداءه فإنه لما دخل الكعبة ووجد فيها وحولها الأصنام جعل يشير إليها بقضيب ويقول : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } فتسقط تلك الأنصاب على وجوهها .
ومجيء الحق مستعمل مجازاً في إدراك الناس إياه وعملهم به وانتصار القائم به على معاضديه تشبيهاً للشيء الظاهر بالشيء الذي كان غايباً فورد جائياً .
و { زهَق } اضمحل بعد وجوده . ومصدره الزُهوق والزَهَق . وزهوق الباطل مجاز في تركه أصحابه فكأنه كان مقيماً بينهم ففارقهم . والمعنى : استقر وشاع الحق الذي يدعو إليه النبي وانقضى الباطل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه .
وجملة { إن الباطل كان زهوقاً } تذييل للجملة التي قبله لما فيه من عموم يشمل كل باطل في كل زمان . وإذا كان هذا شأن الباطل كان الثبات والانتصار شأن الحق لأنه ضد الباطل فإذا انتفى الباطل ثبت الحق .
وبهذا كانت الجملة تذييلاً لجميع ما تضمنته الجملة التي قبلها . والمعنى : ظهر الحق في هذه الأمة وانقضى الباطل فيها ، وذلك شأن الباطل فيما مضى من الشرائع أنه لا ثبات له .
ودل فعل { كان } على أن الزهوق شنشنة الباطل ، وشأنه في كل زمان أنه يظهر ثم يضمحل ، كما تقدم في قوله تعالى : { أكان للناس عجباً } في صدر سورة [ يونس : 2 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين كادوا أن يستفزّونك من الأرض ليخرجوك منها:"جاءَ الحَقّ وَزَهَقَ الباطِلُ".
واختلف أهل التأويل في معنى الحقّ الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلم المشركين أنه قد جاء، والباطل الذي أمره أن يعلمهم أنه قد زَهَق؛ فقال بعضهم: الحقّ: هو القرآن في هذا الموضع، والباطل: هو الشيطان... وقال آخرون: بل عُنِي بالحقّ جهاد المشركين وبالباطل الشرك...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أمر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يخبر المشركين أن الحقّ قد جاء، وهو كلّ ما كان لله فيه رضا وطاعة، وأن الباطل قد زهق: يقول: وذهب كلّ ما كان لا رضا لله فيه ولا طاعة مما هو له معصية وللشيطان طاعة، وذلك أن الحقّ هو كلّ ما خالف طاعة إبليس، وأن الباطل: هو كلّ ما وافق طاعته، ولم يخصص الله عزّ ذكره بالخبر عن بعض طاعاته، ولا ذهاب بعض معاصيه، بل عمّ الخبر عن مجيء جميع الحقّ، وذهاب جميع الباطل، وبذلك جاء القرآن والتنزيل، وعلى ذلك قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك بالله، أعني على إقامة جميع الحقّ، وإبطال جميع الباطل.
وأما قوله عزّ وجلّ: "وَزَهَقَ الباطِلُ "فإن معناه: ذهب الباطل...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} قال بعضهم: جاء الحق، وهو لإسلام، وقيل: جاء الحق القرآن، وقيل: جاء الحق أي محمد... أو يقول: جاء آثار الحق، فذهب الباطل وآثاره، أو جاء حجج الحق وبراهينه، وذهب شبه الباطل وتمويهاته. والحق يحتمل ما ذكرنا من الإسلام ورسول الله.
وقوله تعالى: {وزهق الباطل} أي ذهب، وبطل غيره من الأديان وغيره من المذاهب وعبادة الأصنام ونحو ذلك.
قالوا: وأصله أن الناس كانوا في حيرة وتيه قبل بعث الرسول لما كانوا فقدوا دين الله وسبيله منذ كان رفع عيسى من الأرض إلى السماء، لا يجدون سبيل الله، ولا يهتدون إلى شيء، حيارى، حزانى، حتى بعث الله محمدا ليدعوهم إلى دين الله، ويبين لهم سبيله الذي كان يتمسك به الأنبياء من قبله ويخرجهم من تلك الحيرة التي كانوا فيها، ففعل صلى الله عليه وسلم فذلك الذي قال الله تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} الذي فقدوه، فسروا بذلك {وزهق الباطل} أي ذهب، واضمحل، {إن الباطل كان زهوقا} أي ذاهبا مضمحلا، لا يجدي خيرا، ولا يعقب لأهله نفعا، والحق هو الذي يعقب، ويُجدي نفعا لأهله.
ثم قوله: {وقل جاء الحق وزهق الباطل} لم يفهم أهل الخطاب بمجيء الحق، الانتقال من مكان إلى مكان، ولا بذهاب الباطل على ما يفهم من مجيء فلان وذهاب فلان، بل فهموا من مجيء الحق ظهوره وعلوه، وفهموا من زهوق الباطل وذهابه فناءه واضمحلاله وتلاشيه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
والباطل نقيض الحق. واللَّهُ حقٌّ: على معنى أنه موجود وأنه ذو الحق وأنه مُحِقُّ الحق... ويقال الحقُّ ما كان لله، والباطل ما كان لغير الله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وقل جاء الحق}... الصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة، فيكون التفسير: جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه، {وزهق} الكفر بجميع ما انطوى فيه، و {الباطل} كل ما لا تنال به غاية نافعة.
{كان زهوقاً} ليست {كان} إشارة إلى زمن مضى، بل المعنى كان وهو يكون، وهذا كقولك كان الله عليماً قادراً ونحو هذا، وهذه الآية نزلت بمكة، ثم إن رسول الله كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بالمخصرة حسبما في السيرة لابن هشام وفي غيرها...
{إن الباطل كان زهوقا} يعني أن الباطل وإن اتفقت له دولة وصولة إلا أنها لا تبقى بل تزول على أسرع الوجوه، والله أعلم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
تهديد ووعيد لكفار قريش؛ فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به، وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع. وزَهَقَ باطلهم، أي اضمحل وهلك، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... {وقل} أي لأوليائك وأعدائك: {جاء الحق} وهو كل ما أمرني به ربي وأنزله إليّ {وزهق} أي اضمحل وبطل وهلك {الباطل} وهو كل ما خالفه؛ ثم علل زهوقه بقوله: {إن الباطل كان} في نفسه بجبلته وطبعه {زهوقاً} قضاء قضاه الله تعالى من الأزل...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} أي: هذا وصف الباطل، ولكنه قد يكون له صولة وروجان إذا لم يقابله الحق فعند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك. ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"وقل: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"..
بهذا السلطان المستمد من الله، أعلن مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته، وزهوق الباطل واندحاره وجلاءه. فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت، ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق..
"إن الباطل كان زهوقا".. حقيقة لدنية يقررها بصيغة التوكيد. وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة. فالباطل ينتفخ ويتنفج وينفش، لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة؛ ومن ثم يحاول أن يموه على العين، وأن يبدو عظيما كبيرا ضخما راسخا، ولكنه هش سريع العطب، كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليا ثم تخبو سريعا وتستحيل إلى رماد؛ بينما الجمرة الذاكية تدفئ وتنفع وتبقى؛ وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء.
"إن الباطل كان زهوقا".. لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته، إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية؛ فإذا تخلخلت تلك العوامل، ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار. فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده. وقد تقف ضده الأهواء وتقف ضده الظروف ويقف ضده السلطان.. ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى ويكفل له البقاء، لأنه من عند الله الذي جعل الحق من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول.
"إن الباطل كان زهوقا".. ومن ورائه الشيطان، ومن ورائه السلطان. ولكن وعد الله أصدق، وسلطان الله أقوى. وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان، إلا وذاق معه حلاوة الوعد، وصدق العهد. "ومن أوفى بعهده من الله "؟ "ومن أصدق من الله حديثا"؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومجيء الحق مستعمل مجازاً في إدراك الناس إياه وعملهم به وانتصار القائم به على معاضديه تشبيهاً للشيء الظاهر بالشيء الذي كان غائباً فورد جائياً... وزهوق الباطل مجاز في تركه أصحابه فكأنه كان مقيماً بينهم ففارقهم. والمعنى: استقر وشاع الحق الذي يدعو إليه النبي وانقضى الباطل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه... وجملة {إن الباطل كان زهوقاً} تذييل للجملة التي قبله لما فيه من عموم يشمل كل باطل في كل زمان. وإذا كان هذا شأن الباطل كان الثبات والانتصار شأن الحق لأنه ضد الباطل فإذا انتفى الباطل ثبت الحق...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذه الآية تؤذن بما سيقع بعد أن يكون الخروج الصدق من مكة بالهجرة والدخول بالمدينة وهو النصرة والإيواء. وبعد أن أعطاهم السلطان النصير، والقوة ومجابهة الشرك، أمر الله تعالى نبيه أن يقول ذلك مقررا مثبتا جاهرا بهذه الحقيقة وإن لم يكن ذلك ظاهرا، ولكن أسباب النصر القريب قد وجدت وتضافرت، وكان إشدادهم في الإعنات بشيرا للمؤمنين بقرب الفرج، وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدخله مدخل صدق وأن يخرجه مخرج صدق؛ إيذانا بالهجرة التي كان من بعدها النصر المؤزر... ولو أننا نأخذ من روح النصوص القرآنية ما اقترن بها من حوادث، لقلنا إن هذه الآيات، والنبي صلى الله عليه وسلم قد التقى بوفد الأوس والخزرج وبايعهم بعد أن آمن من آمن منهم ولكن لم نجد في كتب التفسير ما يؤيد ما نقول وحسبنا القرآن مبينا أو مسيرا...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} لا يحمل عناصر البقاء الحقيقية التي تمنحه القدرة على الاستمرار والدوام، إذ إنّه لا يملك عمق الثبات في ذاته، بل كل ما هناك، أنه يستعير عوامل القوّة من الأوضاع الخارجية التي تحيط بالساحة، في عملية تجاذبٍ وصراعٍ. وهذا ما يريد الله للمؤمن أن يستوحيه في نفسه، وأن يؤكده في ساحته، وإن وقفت هذه العوامل في مواجهته على مستوى الفكر والسياسة والاجتماع...