و من أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق ، صلاة الليل ، الدالة على الإخلاص ، وتواطؤ القلب واللسان ، ولهذا قال : { كَانُوا } أي : المحسنون { قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أي : كان هجوعهم أي : نومهم بالليل ، قليلاً ، وأما أكثر الليل ، فإنهم قانتون لربهم ، ما بين صلاة ، وقراءة ، وذكر ، ودعاء ، وتضرع .
ثم إنه تعالى بَيَّن إحسانهم في العمل فقال : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } ، اختلف المفسرون في ذلك على قولين :
أحدهما : أن " ما " نافية ، تقديره : كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه . قال ابن عباس : لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئا . وقال قتادة ، عن مطرف بن عبد الله : قلَّ ليلة تأتي عليهم لا يصلون فيها لله ، عز وجل ، إما من أولها وإما من أوسطها . وقال مجاهد : قلَّ ما يرقدون ليلة حتى{[27415]} الصباح لا يتهجدون . وكذا قال قتادة . وقال أنس بن مالك ، وأبو العالية : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء . وقال أبو جعفر الباقر ، كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة .
والقول الثاني : أن " ما " مصدرية ، تقديره : كانوا قليلا من الليل هجوعهم ونومهم . واختاره ابن جرير . وقال الحسن البصري : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } : كابدوا قيام الليل ، فلا ينامون من الليل إلا أقله ، ونشطوا فمدوا إلى السحر ، حتى كان الاستغفار بسحر . وقال قتادة : قال الأحنف بن قيس : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } : كانوا لا ينامون إلا قليلا ثم يقول : لست من أهل هذه الآية . وقال الحسن البصري : كان الأحنف بن قيس يقول : عرضت عملي على عمل أهل الجنة ، فإذا قوم قد باينونا بونًا بعيدا ، إذا قوم لا نبلغ أعمالهم ، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وعرضت عملي على عمل أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم يكذبون {[27416]} بكتاب الله وبرسل الله ، يكذبون بالبعث بعد الموت ، فوجدت من خيرنا منزلة قومًا خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال رجل من بني تميم لأبي : يا أبا أسامة ، صفة لا أجدها فينا ، ذكر الله قوما فقال : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } ، ونحن والله قليلا من الليل ما نقوم . فقال له أبي : طوبى لمن رقد إذا نعس ، واتقى الله إذا استيقظ .
وقال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، انجفل الناس إليه ، فكنت فيمن انجفل . فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه رَجُل كذاب ، فكان أول ما سمعته يقول : " يا أيها الناس ، أطعموا الطعام ، وصِلُوا الأرحام ، وأفشوا السلام ، وصَلُّوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام " {[27417]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني حيي بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلى ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها " . فقال أبو موسى الأشعري : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : " لمن ألان الكلام ، وأطعم الطعام ، وبات لله قائما ، والناس نيام " {[27418]} .
وقال مَعْمَر في قوله : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } : كان {[27419]} الزهري والحسن يقولان :
كانوا كثيرا من الليل ما يصلون .
وقال ابن عباس ، وإبراهيم النَّخَعِي : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } : ما ينامون .
وقال الضحاك : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلا } ثم ابتدأ فقال : { مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
{ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون } تفسير لإحسانهم و{ ما } مزيدة أي يهجعون في طائفة من الليل ، أو { يهجعون } هجوعا قليلا أو مصدرية أو موصولة أي في قليل من الليل هجوعهم ، أو ما يهجعون فيه ولا يجوز أن تكون نافية لأن { ما } بعدها لا يعمل فيما قبلها . وفيه مبالغات لتقليل نومهم واستراحتهم ذكر القليل و{ الليل } الذي هو وقت السبات ، والهجوع الذي هو الفرار من النوم وزيادة { ما } .
معنى قوله عز وجل : { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } أن نومهم كان قليلاً لاشتغالهم بالصلاة والعبادة ، فالمراد من كل ليلة ، والهجوع : النوم .
وقال الأحنف بن قيس : لست من أهل هذه الآية ، وهذا إنصاف منه . وقيل لبعض التابعين مدح الله قوماً { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } ، ونحن قليل من الليل ما تقوم ، فقال رحم الله عبداً رقد ، إذا نعس ، وأطاع ربه إذا استيقظ . وفسر أنس بن مالك هذه الآية بأنهم كانوا ينتفلون بين المغرب والعشاء ، وقال الربيع بن خيثم ، المعنى : كانوا يصيبون من الليل حظاً . وقال مطرف بن عبد الله ، المعنى : قل ليلة أتت عليهم هجوعها كله ، وقاله ابن أبي نجيح ومجاهد ، فالمراد عند هؤلاء بقوله : { من الليل } أي من الليالي . وظاهر الآية عندي أنهم كانوا يقومون الأكثر من ليلهم ، أي من كل ليلة وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً .
وأما إعراب الآية : فقال الضحاك في كتاب الطبري ما يقتضي أن المعنى { كانوا قليلاً } في عددهم وتم خبر كان ، ثم ابتدأ { من الليل ما يهجعون } ف { ما } : نافية . و { قليلاً } وقف حسن .
وقال بعض النحاة : { ما } زائدة ، و { قليلاً } مفعول مقدم ب { يهجعون } . وقال جمهور النحويين { ما } مصدرية و { قليلاً } خبر «كان » ، والمعنى كانوا قليلاً من الليل هجوعهم . والهجوع مرتفع ب «قليل » على أنه فاعل ، وعلى هذا الإعراب يجيء قول الحسن وغيره ، وهو الظاهر عندي أن المراد كان هجوعهم من الليل قليلاً . وفسر ابن عمر والضحاك { يستغفرون } ب «يصلون » . وقال الحسن معناه : يدعون في طلب المغفرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.