قوله : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } وهذا كالتفسير لكونهم مُحْسِنِينَ{[52736]} ، وفيه أوجه :
أحدها : أن الكلام تَمَّ على «قَلِيلاً » ولهذا وقف بعضهم على قليلاً ليؤاخي بها قوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ ص : 24 ] { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] ويبتدئ : { مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } أي ما يهجعون من الليل . والمعنى كانوا من الناس قليلاً ، ثم ابتدأ فقال : ما يَهْجَعُون وجعله جَحْداً أي لا ينامون بالليل ألبتة يقومون للصلاة والعبادة . وهو قول الضحاك ومقاتل{[52737]} . وهذا لا يظهر من حيث المعنى ، ولا من حيث الصناعة ، أما الأول فلا بد أن يهجعوا ، ولا يتصور نفي هجوعهم ، وأما الصناعة فلأن «ما » في حيز النفي لا يتقدم عليه عند البصريين . هذا إن جعلتها نافية ، وإِن جعلتها مصدرية صار التقدير من الليل هُجُوعُهُمْ . ولا فائدة فيه ، لأن غيره من سائر الناس بهذه المثابة{[52738]} .
الثاني : أن تجعل «ما » مصدرية في محلِّ رفع{[52739]} «بِقَلِيلاً » ، والتقدير : كَانُوا قليلاً هُجُوعُهُمْ .
الثالث : أن تجعل ما المصدرية بدلاً من اسم كان بدل اشتمال أي كان هُجُوعُهُمْ قليلاً{[52740]} . و«مِنَ اللَّيْلِ » على هذين لا يتعلق ب «يهجعون » لأن ما في حَيِّز المصدر لا يتقدم عليه على المشهور . وبعض المانعين{[52741]} اغتفروا في الظرف فيجوزُ هذا عنده والمانع يقدر فعلاً يدل عليه : «يَهْجَعُونَ مِنَ اللَّيْل » .
الرابع : أن «ما » مزيدة و«يَهْجَعُون » خبر كان ، والتقدير : كَانُوا يهجعون من الليل هُجُوعاً قَلِيلاً ، أو زمناً قليلاً ، ف «قَليلاً » ، نعت لمصدر أو ظرف{[52742]} .
الخامس : أنها بمعنى الذي ، وعائدها محذوف تقديره : كَانُوا قليلاً من الليل الوقت الذي يهجعونه{[52743]} . وهذا فيه تَكَلُّفٌ .
قال ابن الخطيب : «قليلاً » منصوب على الظرف تقديره يهجَعونَ قليلاً يقال : قام بَعْضَ الليل ، فنصب «بعض » على الظرف ، وخبر كان هو قوله : «يَهْجَعُونَ » و«ما » زائدة هذا هو المشهور{[52744]} ، وفيه وجه آخر : وهو أن يقال : كانوا قليلا معناه كانوا من الناس قليلا ، فيكون " قليلا " خبر كان . و " ما يهجعون " معناه نفي النوم عنهم . وهذا منقول عن الضَّحَّاك ومقاتل{[52745]} .
وأنكر الزمخشري{[52746]} كون «ما » نافية ، وقال : لا يجوز أن تكون نافية ؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيها قبلها لا تقول : زَيْداً ما ضَرَبْتُ ويجوز أن يعمل ما بعد «لم » فيما قبلها ، تقول : زَيْداً لَمْ أَضْرِبْ{[52747]} وذلك أن الفعل المتعدي إنما يعمل في النفي حملاً له على الإثبات لأنك إذا قلت : ضَرَبَ زيدٌ عمراً ثبت تعلق فعله بعمرو . فإذا قلت : مَا ضَرَبَهُ لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه ، لكن النفي محمول على الإثبات ، فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عَمَل الفعل لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل فلا تقول : زَيْداً{[52748]} ضاربٌ عَمْراً أمس ، وتقول : زَيْدٌ ضَاربٌ عَمْراً غداً واليَوْمَ والآنَ ؛ لأن الماضي لم يبقَ موجوداً ولا مُتوقَّع الوجود ، فلا يتعلق بالمفعول حقيقة ، لكن الفعل لقوته يعمل واسم الفاعل لضعفه لم يَعْمَلْ .
إذا عرف هذا فقوله : مَا ضَرَبْتُ للنفي في الماضي ، فاجتمع فيه النفي والمضيّ فَضَعُفَ . وأما : لَمْ أَضْرِبْ فإِن{[52749]} كان يقلب المستقبل فوجد فيه ما وجد في قول القائل : زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْراً غَداً فأُعْمِلَ{[52750]} .
قال ابن الخطيب : غير أن القائل بذلك القول يقول : قليلاً ليس منصوباً بقوله : يَهْجَعُونَ ، وإِنما ذلك خبر ( كانوا{[52751]} ؛ أي ) كانوا قَلِيلِينَ{[52752]} .
تقديم قليلاً في الذكر ليس لمجرد السَّجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في آخر الآيات ، بل لأن الهجوع راحة لهم والمقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله تعالى ، فلا يناسبه تقديم ( راحتهم ){[52753]} ، وقد يَغْفَلُ السامع عما بعد الكلام فيعتقد كونهم محسنين بسبب هجوعهم ، فقدم قوله : «قَلِيلاً » ليسبق إلى الفهم أولاً قلَةُ الهجوع وقوله : «مِنَ اللَّيْل » إشارة إلى أنه الزمن الذي يهجع الناس فيه ولا يسهر في الطاعة إلا متعبد .
فإن قيل : الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهاراً لا يقالُ له : هُجُوع ! .
فالجواب : أن ذِكرَ العام وإِردافه بالتخصيص حَسَنٌ ، تقول : رأيتُ حَيَوَاناً نَاطِقاً فَصِيحاً . وأما ذكر الخاص وإردافه بالعام فلا يَحْسُن إلا في بعض المواضع ، فلا تقول : رأيتُ ناطقاً فصيحاً حيواناً .
وإذا عرف هذا فقوله تعالى : كَانُوا قليلاً من الليل ذكر أمراً هو كالعام يحتمل أن يكون بعده : كَانُوا من الليل يسبحون أو يستغفرون أو يسهرون ، أو غير ذلك ، فلما قال : يَهْجَعُون فكأنه خصّص ذلك بالأمر العام المحتمل له ولغيره فأَزَال الاحْتِمَال{[52754]} .
قوله : «وَبِالأَسْحَارِ » متعلق ب «يَسْتَغْفِرُونَ » ، والباء بمعنى «فِي » . وقدم متعلق الخبر{[52755]} على المبتدأ{[52756]} لجواز تقديم العامل .
معنى قوله : { قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } أي يصلون أكثر الليل . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني كانوا كل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئاً إما من أولها وإما من أوسطها . وقال أنس بن مالك : كانوا يصلون العَتَمَةَ . وقال مُطرفُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بنِ الشَّخِير : قَلَّ ليلة أتت عليهم يهجعونها كلها . وقال مجاهد : كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله ، وربما نَشِطُوا فَمَدُّوا إلى السَّحَر ، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار . وقال الكلبي ومجاهد ومقاتل : وبالأسحار يصَلّونَ ؛ وذلك لأن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة{[52757]} .
روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاء كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل فَيَقُولُ : أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ ، مَنِ الَّذي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنِ الَّذِي يسَأَلُنِي فَأعْطِيَهُ ؟ مِنَ الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ »{[52758]} .
فصل في قوله : { وبالأسحار هُمْ يستغفرون } إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه ، فهم يستغفرون من التقصير . وهذه سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويَسْتَقِلُّه ويعتذر من التقصير واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويَمُنُّ به .
الأولى : أنه تعالى لما ذكر قلة هجوعهم ، والهجوع مُقْتَضى الطبع قال : يَسْتَغْفِرُونَ أي من ذلك القدر من النوم القليل .
الثانية : أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحْهم بكَثْرة السَّهر فلم يقل : كَانُوا قليلاً من الليل ما يسهرون مع أن السَّهَر هو الكَلَفَةُ والاجتهاد لا الهجوع ، وهذا إشارة إلى أن نَوْمَهم عبادةٌ حيث مدحهم الله بكونهم هاجعين قليلاً ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، والاستغفار بالأسحار ، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم{[52759]} .
الباء في قوله : «بالأسحار » استعملت للظرف هنا ، وهي ليست للظرف . قال بعض النحاة : إن حروف الجر ينوب بعضُها عن بعض يقال في ظرف الزمان : خَرَجْتُ لِعَشْرٍ بَقِينَ ، وبالليل ، وفي شهر رمضان . فتستعمل اللام والباء ، وفي ، وكذلك في ظرف المكان تقول : قُمْتُ بِمدينة كذا ، وفيها ، ورأيته ببَلْدَةِ كذا ، وفيها . قال ابن الخطيب : والتحقيقُ فيه أن نقول : الحروف لها معانٍ مختلفة كما أن الأسماء والأفعال كذلك غير أن الحروف مستقلة بإفادة المعنى والاسم والفعل مُسْتَقِلاَّنِ ، لكن بين بعض الحروف وبعضها تنافرٌ ( و ){[52760]} تباعد كما في الأسماء والأفعال ، فإن البيتَ والسَّكَن متخالفان ومتقاربان{[52761]} ، وكذلك مَكَثَ ، وسَكَنَ ( وَأَلَمَّ ){[52762]} ، وكذلك كل اسمين أو كل فعلين يوجد كان{[52763]} بينهما تقارب وتباعد ، لأن الباء للإِلصاق ، واللام للاختصاص ، و«في » للظرف ، والظرف مع المظروف ملتصق ومختص به . إذا عرف هذا فنقول : بين «الباء » و«اللام » و«في » مشاركة ، أما الباء فلأنها للإِلصاق ، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل ، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان فإِذا قال : سَارَ بالنَّهَارِ معناه ذهب ذَهَاباً مُتَّصِلاً بالنهار .
فقوله : { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } أي متصلاً بالأسحار ، أخبر عن الاقتراب ، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله : «فِي اللَّيْلِ » ؛ لأنه يستدعي احتواء الزمان بالفعل وكذلك قول القائل : أقمتُ ببَلْدَة كذا ، لا يفيد أنه كان مخالطاً بالبلد . وقوله : أقمتُ فيها يدل على إحاطتها به ، فإذن قول القائل : أَقَمْتُ بالبَلَدِ ، ودَعَوْتُ بالأَسْحَارِ أعمُّ مِنْ قوله : أقمتُ فِيهِ ؛ لأن القائم فيه قائمٌ به والقائم به ليس قائماً فيه{[52764]} .
وإِذا علم هذا فقوله : { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } إشارة إلى أنهم لا يُخْلُونَ وقتاً عن العبادة وأنهم بالليل لا يهجعون ، ومع أول جزء من السحر يستغفرون فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب ، لأنهم وقت الانتباه لم يُخْلوا الوقت للذنب . ولا يطرد استعمال الباء بمعنى «في » ، فلا تقول : خَرَجْتُ بِيَوْم الجُمُعَةِ لأن يوم الجمعة مع أنه زمان فيه خُصُوصيَّات وتقييدات زائدة على الزمان ، لأنك إذا قلت : خَرَجْتُ بِنَهَارِنَا وبلَيْلَةِ الجُمُعَةِ ، لم يحسن . ولو قلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ وخَرَجَ ( بِيَوْمِ ){[52765]} نَحْسٍ حَسُن فالنهارُ والليل لمّا لم يكن فيهما خُصُوصٌ وتقييد جازَ استعمالُ الباء فيهما ، فإِذا قيدتهما وخصصتهما زال الجوازُ ، و«يَوْمُ الجمعة » لمَّا كان فيه خصوص لم يجز وقلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ جاز . وأما «فِي » فيصح مطلقاً ؛ لأن ما حصل في العام حصل في الخاص ، لأن العام جزءٌ داخل في الخاص ، فتقول : فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ وفِي هذِهِ السَّاعة{[52766]} . وأما اللام فتقدم الكلام عليها عند قوله : { والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } [ يس : 38 ] .
وفائدة قَوْلِهِ : «هم » ؛ قال الزمخشري : فائدتها انْحِصَارُ المستغفرين أي هم الكاملون فيه لا غيرهم كقولك : زَيْدٌ العَالِمُ ، لكماله في العلم كأنه تفرد به ، وأيضاً : فلو عطف بدون هم لأوهم أنهم يستغفرون قليلاً{[52767]} . والاستغفار إما طلب المغفرة ، كقولهم : رَبَّنا اغْفِرْ لَنَا ، وإما إتيانهم بعبارات يتقربون بها طلباً للمغفرة ، وإما أن يكون من باب قولهم : اسْتَحْصَد الزَّرْع أي ذلك أوان المغفرة .