2- هو الذي بدأ خلقكم من طين{[59]} ، ثم قدر لحياة كل منكم زمناً ينتهي بموته والأجل عنده - وحده - المحدد للبعث من القبور . ثم إنكم - أيها الكافرون - بعد هذا تجادلون في قدرة الله على البعث ، واستحقاقه - وحده - للعبادة .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ } وذلك بخلق مادتكم وأبيكم آدم عليه السلام . { ثُمَّ قَضَى أَجَلًا } أي : ضرب لمدة إقامتكم في هذه الدار أجلا ، تتمتعون به وتمتحنون ، وتبتلون بما يرسل إليكم به رسله . { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } ويعمركم ما يتذكر فيه من تذكر . { وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } وهي : الدار الآخرة ، التي ينتقل العباد إليها من هذه الدار ، فيجازيهم بأعمالهم من خير وشر .
{ ثُمَّ } مع هذا البيان التام وقطع الحجة { أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ } أي : تشكون في وعد الله ووعيده ، ووقوع الجزاء يوم القيامة .
وذكر الله الظلمات بالجمع ، لكثرة موادها وتنوع طرقها . ووحد النور لكون الصراط الموصلة إلى الله واحدة لا تعدد فيها ، ، وهي : الصراط المتضمنة للعلم بالحق والعمل به ، كما قال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }
وقوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ } يعني : أباهم آدم الذي هو أصلهم ومنه خرجوا ، فانتشروا في المشارق والمغارب .
وقوله : { ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } قال سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : { ثُمَّ قَضَى أَجَلا } يعني : الموت { وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } يعني : الآخرة .
وهكذا رُوي عن مجاهد ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَيْر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، وعطية ، والسُّدِّي ، ومُقاتِل بن حَيَّان ، وغيرهم .
وقول{[10563]} الحسن - في رواية عنه : { ثُمَّ قَضَى أَجَلا } قال : ما بين أن يخلق إلى أن يموت { وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } ما بين أن يموت إلى أن يبعث - هو يرجع إلى ما تقدم ، وهو تقدير الأجل الخاص ، وهو عمر كل إنسان ، وتقدير الأجل العام ، وهو عمر الدنيا بكمالها ثم انتهائها وانقضائها وزوالها ، [ وانتقالها ]{[10564]} والمصير إلى الدار الآخرة .
وعن ابن عباس ومجاهد : { ثُمَّ قَضَى أَجَلا } يعني : مدة الدنيا { وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } يعني : عمر الإنسان إلى حين موته ، وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ [ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ]{[10565]} } الآية [ الأنعام : 60 ] .
وقال عطية ، عن ابن عباس { ثُمَّ قَضَى أَجَلا } يعني : النوم ، يقبض فيه الروح ، ثم يرجع{[10566]} إلى صاحبه عند اليقظة { وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } يعني : أجل موت الإنسان ، وهذا قول غريب .
ومعنى قوله : { عِنْدَهُ } أي : لا يعلمه إلا هو ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ } [ الأعراف : 187 ] ، وكقوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } [ النازعات : 42 - 44 ] .
وقوله : { ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ } قال السُّدِّي وغيره : يعني تشكون في أمر الساعة .
{ هو الذي خلقكم من طين } أي ابتدأ خلقكم منه ، فإنه المادة الأولى وأن آدم الذي هو أصل البشر خلق منه ، أو خلق أباكم فحذف المضاف . { ثم قضى أجلا } أجل الموت . { وأجل مسمى عنده } أجل القيامة . وقيل الأول ما بين الخلق والموت ، { والثاني ما بين الموت والبعث ، فإن الأجل كما يطلق لآخر المدة يطلق لجملتها . وقيل الأول النوم والثاني الموت . وقيل الأول لمن مضى والثاني لمن بقي ولمن يأتي ، وأجل نكرة خصصت بالصفة ولذلك استغني عن تقديم الخبر والاستئناف به لتعظيمه ولذلك نكر ووصف بأنه مسمى أي مثبت معين لا يقبل التغيير ، وأخبر عنه بأنه عند الله لا مدخل لغيره فيه يعلم ولا قدرة ولأنه المقصود بيانه . { ثم أنتم تمترون } استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت أنه خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم ، فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما يشاء كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيا ، فالآية الأولى دليل التوحيد والثانية دليل البعث ، والامتراء الشك وأصله المري وهو استخراج اللبن من الضرع .
قال مجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم . . المعنى خلق آدم من طين والبشر من آدم فلذلك قال : { خلقكم من طين } وحكى المهدوي عن فرقة أنها قالت بل المعنى أن النطفة التي يخلق منها الإنسان أصلها من طين ثم يقلبها الله نطفة ، وذكره مكي والزهراوي ، والقول الأول أليق بالشريعة لأن القول الثاني إنما يترتب على قول من يقول بأن الطين يرجع بعد التولد والاستحالات الكثيرة نطفة ، وذلك مردود عند الأصوليين ، واختلف المفسرون في هذين الأجلين ، فقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة والضحاك ، { أجلاً } أجل الإنسان من لدن ولادته إلى موته ، والأجل المسمى عنده من وقت موته إلى حشره ، ووصفه بمسمى عنده لأنه استأثر بعلم وقت القيامة ، وقال ابن عباس : { أجلاً } ، الدنيا ، { أجل مسمى } الآخرة ، وقال مجاهد : { أجلاً } الآخرة ، { وأجل مسمى } ، الدنيا بعكس الذي قبله ، وقال ابن عباس أيضاً : { أجلاً } ، وفاة الإنسان بالنوم ، { وأجل مسمى } وفاته بالموت وقال ابن زيد ، الأجل الأول هو في وقت أخذ الميثاق على بني آدم حين استخرجهم من ظهر آدم ، وبقي «أجل » واحد مسمى في هذه الحياة الدنيا ، وحكى المهدوي عن فرقة { أجلاً } ، ما عرف الناس من آجال الأهلة والسنين والكوائن ، { وأجل مسمى } قيام الساعة ، وحكي أيضاً عن فرقة { أجلاً } مسمى{[4819]} : ما عرفناه من أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، { وأجل مسمى } الآخرة .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وينبغي أن تتأمل لفظة { قضى } في هذه الآية فإنها تحتمل معنيين ، فإن جعلت بمعنى قدر وكتب ورجعت إلى سابق علمه وقدره فيقول إن ذلك ولا بد قبل خلقه آدم من طين ، وتخرج ثم من معهودها في ترتيب زمَنْي وقوع القصتين ويبقى لها ترتيب زمَني الإخبار عنه ، كأنه قال : أخبركم أنه خلقكم من طين ثم أخبركم أنه قضى أجلاً ، وإن جعلت { قضى } بمعنى أوجد وأظهر ويرجع ذلك إلى صفة فعل فيصح أن يكون خلق آدم من طين قبل إظهار هذا الأجل وإبدائه ، وتكون [ ثم ] على بابها في ترتيب زمَنْي وقوع القضيتين . و { تمترون } معناه : تشكون ، والمرية : الشك{[4820]} .
وقوله : { ثم أنتم } على نحو قوله : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } في التوبيخ على سوء الفعل بعد مهلة من وضوح الحجج .