فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ ثُمَّ قَضَىٰٓ أَجَلٗاۖ وَأَجَلٞ مُّسَمًّى عِندَهُۥۖ ثُمَّ أَنتُمۡ تَمۡتَرُونَ} (2)

{ هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون 2 وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون 3 وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين 4 } .

{ هو الذي خلقكم من طين } في معناه قولان ( أحدهما ) وهو الأشهر وبه قال الجمهور أن المراد آدم عليه السلام ، ومن لابتداء الغاية وأخرجه مخرج الخطاب للجميع لأنهم ولده ونسله ( الثاني ) أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين ، وإنما ذكر الله سبحانه خلق آدم وبينه بعد خلق السموات والأرض إتباعا للعالم الأصغر بالعالم الأكبر ، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث ورد جحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه .

{ ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده } جاء بكلمة ثم لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت فهي للترتيب الزماني على أصلها ، وقضى بمعنى أظهر ، وهي صفة فعل وإن كان بمعنى كتب وقدر ، فهي للترتيب في الذكر لأنها صفة ذات وذلك مقدم على خلقهم .

وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين فقيل قضى أجلا يعني الموت وأجل مسمى القيامة والوقوف عند الله ، وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك ومجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم وعطية والسدي وخصيف ومقاتل وغيرهم ، وقيل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو البرزخ وهو قريب من الأول .

وقيل الأول مدة الدنيا والثاني عمر الإنسان إلى حين موته ، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وقيل الأول قبض الأرواح في النوم ، والثاني قبضها عند الموت ، وقيل الأول لمن مضى والثاني لمن بقي ولمن يأتي ، وقيل إن الأول الأجل الذي هو محتوم ، والثاني الزيادة في العمر لمن وصل رحمه فإن كان برا تقيا وصولا لرحمه زيد في عمره وإن كان قاطعا للرحم لم يزد له .

ويرشد إلى هذا قوله تعالى : { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الأول أجل الدنيا ، والثاني أجل الآخرة ، وجاز الابتداء بالنكرة في قوله : { وأجل مسمى عنده } لأنها قد تخصصت بالصفة .

{ ثم أنتم تمترون } استبعاد لصدور الشك منهم مع وجود المقتضى لعدمه أي كيف تشكرون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء والانتهاء ما يذهب بذلك ويدفعه ، فإن من خلقكم من طين وصيركم أحياء تعلمون وتعقلون ، وخلق لكم هذه الحواس والأطراف ثم سلب ذلك عنكم فصرتم أمواتا وعدتم على ما كنتم عليه من الجمادية لا يعجزه أن يبعثكم ويعيد هذه الجسام كما كانت ويرد إليها الأرواح التي فارقتها بقدرته وبديع حكمته .