الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ ثُمَّ قَضَىٰٓ أَجَلٗاۖ وَأَجَلٞ مُّسَمًّى عِندَهُۥۖ ثُمَّ أَنتُمۡ تَمۡتَرُونَ} (2)

قوله تعالى : { مِّن طِينٍ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه متعلِّقٌ ب " خَلَقكم " و " مِنْ " لابتداء الغاية . والثاني : أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حال ، وهل يُحتاج في هذا الكلام إلى حَذْفِ مضاف أم لا ؟ خلاف : ذهب جماعة كالمهدويِّ ومكي وجماعة إلى أنه لا حَذْفَ ، وأن الإِنسان مخلوقٌ من الطين ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولودٍ يولد إلا ويُذَرُّ على النطفة من تراب حفرته " . وقيل : إن النطفة أصلها الطين . وقال غالب المفسرين : ثمَّ محذوفٌ أي : خَلَقَ أَصْلَكم أو أباكم من طينٍ ، يعنون آدم وقصته المشهورة . وقال امرؤ القيس :

إلى عِرْقِ الثَّرى رَسَخَتْ عُروقي *** وهذا الموتُ يَسْلُبُني شبابي

قالوا : أراد بعِرقْ الثرى آدم عليه السلام لأنه أصلُه .

قوله : { ثُمَّ قَضَى } إن كان " قضى " بمعنى أظهر ف " ثُمَّ " للترتيب الزماني على أصلها ؛ لأنَّ ذلك متأخرٌ عن خَلْقِنا وهي صفة فعل ، وإن كان بمعنى كَتَب وقَد‍َّر فهي للترتيب في الذِّكْر ؛ لأنها صفة ذات ، وذلك مُقَدَّم على خَلْقِنا .

قوله : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } مبتدأ وخبر ، وسوَّغ الابتداء هنا شيئان ، أحدهما : وَصْفُه ، والثاني : عَطْفُه ، ومجرَّدُ العطف من المسوغات ، قال :

عندي اصْطِبارٌ وشَكْوى عند قاتلتي *** فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا

والتنكير في الأجلين للإِبهام . وهنا مُسَوِّغٌ آخر وهو التفصيل كقوله :

إذا ما بكى مِنْ خلفِها انصرفَتْ له *** بشِقٍ وشِقٌ عندنا لم يُحَوَّلِ

ولم يَجِبْ هنا تقديمُ الخبر وإن كان المبتدأ نكرةً والخبر ظرفاً ؛ قال الزمخشري : لأنه تخصَّص بالصفةِ فقارَبَ " المعرفةَ ، قال الشيخ : " وهذا الذي ذكره من كَوْنِه مُسَوِّغاً للابتداء بالنكرة لكونها وُصِفَتْ لا يتعيَّن ، لجواز أن يكون المسوِّغُ التفصيلَ ، ثم أنشد البيت : إذا ما بكى " قلت : الزمخشري لم يقلْ إنه تعيَّن ذلك حتى يُلْزِمَه به ، وإنما ذكر أشهرَ المسوِّغات فإنَّ العطفَ والتفصيل قَلَّ مَنْ يذكرُهما في المسوِّغات .

قال الزمخشري : " فإن قلت : الكلامُ السائرُ أن يُقال : " عندي ثوب جيِّدٌ ، ولي عبدٌ كيِّس " فما أوجب التقديم ؟ قلت : أوجبه أن المعنى : وأيُّ أجل مسمَّى عنده ، تعظيماً لشأن الساعة ، فلمَّا جرى فيه هذا المعنى أوجب التقديم " . قال الشيخ : وهذا لا يجوز ؛ لأنه إذا كان التقدير : وأيُّ أجل مسمى عنده كانت " أيّ " صفةً لموصوف محذوف تقديره : وأجلٌ أيُّ أجلٍ مسمَّى عنده ، ولا يجوز حَذْفُ الصفةِ إذا كانت " أيَّاً " ولا حَذْفُ موصوفِها وإبقاؤها لو قلت : مررت بأيِّ رجل ، تريد برجلٍ أيِّ رجل لم يَجُزْ " قلت : ولم أَدْرِ كيف يُؤاخَذُ مَنْ فسَّر معنى بلفظٍ لم يَدَّعِ أن ذلك اللفظَ هو أصل الكلام المفسَّر ، بل قال : معناه كيت وكيت ، فكيف يَلزمه أن يكون ذلك الكلام الذي فسَّر به هو أصل ذلك المفسَّر ؟ على أنه قد وَرَدَ حذفُ موصوفِ " أيّ " وإبقاؤها كقوله :

إذا حارب الحَجَّاجُ أيَّ منافقٍ *** عَلاه بسيفٍ كلما هَزَّ يقطعُ

قوله : { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } قد تقدَّم الكلامُ على " ثم " هذه . وتمترون تَفْتَعُون من المِرْيَة ، وتقدَّم معناها في البقرة عند قوله : { مِنَ الْمُمْتَرِينَ }

[ الآية : 147 ] وجَعَلَ الشيخ هذا من باب الالتفات ، أعني قوله : " خَلَقَكم ثم أنتم تَمْتَرون " يعني أن قوله { ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } غائبٌ ، فالتفت عنه إلى قوله : " خلقكم ثم أنتم " . ثم كأنه اعترض على نفسه بأنَّ خَلْقَكم وقضاءَ الأجلِ لا يختصُّ به الكفار ، بل المؤمنون مثلُهم في ذلك . وأجاب بأنه إنما قصد الكفار تنبيهاً لهم على خَلْقِه لهم وقدرتَه وقضائه لأجالهم . قال : " وإنما جَعَلْتُه من الالتفات ؛ لأن هذا الخطابَ وهو { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } لايمكن أن يندرجَ فيه مَنْ اصطفاه الله بالنبوَّة والإِيمان " .

وأصل مُسَمَّى : مُسَمَّوٌ لأنه من مادة الاسم ، وقد تقدَّم ذلك فقلبت الواو ياءً ، ثم الياء ألفاً . وتمترون أصله تَمْتَرِيُون فأُعِلَّ كنظائر له تقدَّمَتْ .