مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ ثُمَّ قَضَىٰٓ أَجَلٗاۖ وَأَجَلٞ مُّسَمًّى عِندَهُۥۖ ثُمَّ أَنتُمۡ تَمۡتَرُونَ} (2)

قوله تعالى { هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون }

اعلم أن هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصانع تعالى ، ويحتمل أن لا يكون المراد منه ذكر الدليل على صحة المعاد وصحة الحشر .

أما الوجه الأول : فتقريره : أن الله تعالى لما استدل بخلقه السماوات والأرض وتعاقب الظلمات والنور على وجود الصانع الحكيم أتبعه بالاستدلال بخلقه الإنسان ، على إثبات هذا المطلوب فقال : { هو الذي خلقكم من طين } والمشهور أن المراد منه أنه تعالى خلقهم من آدم وآدم كان مخلوقا من طين . فلهذا السبب قال : { هو الذي خلقكم من طين } وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث ، وهما يتولدان من الدم ، والدم إنما يتولد من الأغذية ، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية ، فإن كانت حيوانية كان الحال في كيفية تولد الإنسان ، فبقي أن تكون نباتية ، فثبت أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية ، ولا شك أنها متولدة من الطين ، فثبت أن كل إنسان متولد من الطين . وهذا الوجه عندي أقرب إلى الصواب .

إذا عرفت هذا فنقول : هنا الطين قد تولدت النطفة منه بهذا الطريق المذكور ، ثم تولد من النطفة أنواع الأعضاء المختلفة في الصفة والصورة واللون والشكل مثل القلب والدماغ والكبد ، وأنواع الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها ، وتولد الصفات المختلفة في المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم وذلك هو المطلوب .

وأما الوجه الثاني : وهو أن يكون المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد ، فنقول لما ثبت أن تخليق بدن الإنسان إنما حصل ، لأن الفاعل الحكيم والمقدر الرحيم ، رتب حلقة هذه الأعضاء على هذه الصفات المختلفة بحكمته وقدرته ، وتلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادرا على إعادتها وإعادة الحياة فيها ، وذلك يدل على صحة القول بالمعاد .

وأما قوله تعالى : { ثم قضى أجلا } ففيه مباحث :

المبحث الأول : لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر . قال تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } وبمعنى الخبر والإعلام . قال تعالى : { وقضينا إلى بنى إسراءيل فى الكتاب } وبمعنى صفة الفعل إذا تم . قال تعالى : { فقضاهن سبع سموات في يومين } ومنه قولهم قضى فلان حاجة فلان . وأما الأجل فهو في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانقضاء عمره ، وأجل الدين محله لانقضاء التأخير فيه وأصله من التأخير يقال أجل الشيء يأجل أجولا ، وهو آجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل .

إذا عرفت هذا فقوله { ثم قضى أجلا } معناه أنه تعالى خصص موت كل واحد بوقت معين وذلك التخصيص عبارة عن تعلق مشيئته بإيقاع ذلك الموت في ذلك الوقت . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } .

وأما قوله تعالى : { وأجل مسمى عنده }

فاعلم أن صريح هذه الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان . واختلف المفسرون في تفسيرهما على وجوه : الأول : قال أبو مسلم قوله { ثم قضى أجلا } المراد منه آجال الماضين من الخلق وقوله { وأجل مسمى عنده } المراد منه آجال الباقين من الخلق فهو خص هذا الأجل . الثاني : بكونه مسمى عنده ، لأن الماضين لما ماتوا صارت آجالهم معلومة ، أما الباقون فهم بعد لم يموتوا فلم تصر آجالهم معلومة ، فلهذا المعنى قال : { وأجل مسمى عنده } والثاني : أن الأجل الأول هو أجل الموت والأجل المسمى عند الله هو أجل القيامة ، لأن مدة حياتهم في الآخرة لا آخرة لها ولا انقضاء ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله سبحانه وتعالى . والثالث : الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت . والثاني : ما بين الموت والبعث وهو البرزخ . والرابع : أن الأول : هو النوم والثاني : الموت . والخامس : أن الأجل الأول مقدار ما انقضى من عمر كل أحد ، والأجل الثاني : مقدار ما بقي من عمر كل أحد . والسادس : وهو قول حكماء الإسلام أن لكل إنسان أجلين : أحدهما : الآجال الطبيعية . والثاني : الآجال الاخترامية . أما الآجال الطبيعية : فهي التي لو بقي ذلك المزاج مصونا من العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني ، وأما الآجال الاخترامية : فهي التي تحصل بسبب من الأسباب الخارجية : كالغرق والحرق ولدغ الحشرات وغيرها من الأمور المعضلة ، وقوله { مسمى عنده } أي معلوم عنده أو مذكور اسمه في اللوح المحفوظ ، ومعنى عنده شبيه بما يقول الرجل في المسألة عندي أن الأمر كذا وكذا أي هذا اعتقادي وقولي .

فإن قيل : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تأخيره فلم جاز تقديمه في قوله { وأجل مسمى عنده }

قلنا : لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة كقوله { ولعبد مؤمن خير من مشرك } .

وأما قوله { ثم أنتم تمترون } فنقول : المرية والامتراء هو الشك .

واعلم أنا إن قلنا المقصود من ذكر هذا الكلام الاستدلال على وجود الصانع كان معناه أن بعد ظهور مثل هذه الحجة الباهرة أنتم تمترون في صحة التوحيد ، وإن كان المقصود تصحيح القول بالمعاد فكذلك ، والله أعلم .