فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ ثُمَّ قَضَىٰٓ أَجَلٗاۖ وَأَجَلٞ مُّسَمًّى عِندَهُۥۖ ثُمَّ أَنتُمۡ تَمۡتَرُونَ} (2)

قوله : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ } في معناه قولان : أحدهما ، وهو الأشهر ، وبه قال الجمهور أن المراد آدم عليه السلام ، وأخرج مخرج الخطاب للجميع ، لأنهم ولده ونسله . الثاني ، أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين ، ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السموات والأرض إتباعاً للعالم الأصغر بالعالم الأكبر ، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث ، وردّ لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه .

قوله : { ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَل مُسمًّى عِندَهُ } جاء بكلمة «ثم » لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت .

وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين ، فقيل : { قَضَى أَجَلاً } يعني الموت { وَأَجَل مُسمًّى عِندَهُ } يعني القيامة ، وهو مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، ومجاهد ، وعكرمة ، وزيد بن أسلم ، وعطية والسديّ وخصيف ، ومقاتل وغيرهم ، وقيل الأوّل : ما بين أن يخلق إلى أن يموت ؛ والثاني : ما بين أن يموت إلى أن يبعث ، وهو قريب من الأوّل . وقيل الأوّل مدّة الدنيا ؛ والثاني عمر الإنسان إلى حين موته . وهو مرويّ عن ابن عباس ومجاهد . وقيل : الأوّل قبض الأرواح في النوم ؛ والثاني قبض الروح عند الموت . وقيل : الأوّل ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك ؛ والثاني أجل الموت . وقيل : الأوّل لمن مضى . والثاني لمن بقي ولمن يأتي . وقيل : إن الأوّل الأجل الذي هو محتوم ؛ والثاني الزيادة في العمر لمن وصل رحمه ، فإن كان برّاً تقياً وصولاً لرحمه زيد في عمره ، وإن كان قاطعاً للرحم لم يزد له ، ويرشد إلى هذا قوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُعَمّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كتاب } . وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر ، وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت ؛ وجاز الابتداء بالنكرة في قوله : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } لأنها قد تخصصت بالصفة .

قوله : { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } استبعاد لصدور الشك منهم مع وجود المقتضى لعدمه ، أي كيف تشكون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء ، والانتهاء ما يذهب بذلك ويدفعه ، فإن من خلقكم من طين ، وصيركم أحياء تعلمون وتعقلون ، وخلق لكم هذه الحواس والأطراف ، ثم سلب ذلك عنكم فصرتم أمواتاً ، وعدتم إلى ما كنتم عليه من الجمادية ، لا يعجزه أن يبعثكم ويعيد هذه الأجسام كما كانت ، ويردّ إليها الأرواح التي فارقتها بقدرته وبديع حكمته .

/خ2