البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ ثُمَّ قَضَىٰٓ أَجَلٗاۖ وَأَجَلٞ مُّسَمًّى عِندَهُۥۖ ثُمَّ أَنتُمۡ تَمۡتَرُونَ} (2)

الطين : معروف ، يقال : منه طان الكتان يطينه وطنه يا هذا .

{ هو الذي خلقكم من طين } ظاهره أنا مخلوقون من طين ، وذكر ذلك المهدوي ومكي والزهراوي عن فرقة فالنطفة التي يخلق منها الإنسان أصلها { من طين } ثم يقلبها الله نطفة .

قال ابن عطية : وهذا يترتب على قول من يقول : يرجع بعد التولد والاستحالات الكثيرة نطفة وذلك مردود عند الأصوليين ؛ انتهى .

وقال النحاس : يجوز أن تكون النطفة خلقها الله { من طين } على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها ؛ انتهى .

وقد روى أبو نعيم الحافظ عن بريد بن مسعود حديثاً في الخلق آخره : »ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته« ، فذلك قوله تعالى : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم } الآية .

وخرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يولد إلا وقد در عليه من تراب حفرته " .

وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث المتولدين من الأغذية ، والأغذية حيوانية والقول في كيفية تولدها ، كالقول في الإنسان أو نباتية فثبت تولد الإنسان من النباتية وهي متولدة { من الطين } فكل إنسان متولد .

{ من الطين } وهذا الوجه أقرب إلى الصواب ؛ انتهى .

وهذا الذي ذكر أنه عنده وجه آخر وهو أقرب إلى الصواب ، هو بسط ما حكاه المفسرون عن فرقة .

وقال فيه ابن عطية : هو مردود عند الأصوليين يعني القول : بالتوالد والاستحالات والذي هو مشهور عند المفسرين ، أن المخلوق { من الطين } هنا هو آدم .

قال قتادة ومجاهد والسدي وغيرهم : المعنى خلق آدم { من طين } والبشر من آدم فلذلك قال : { خلقكم من طين } وذكر ابن سعد في الطبقات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الناس ولد آدم وآدم من تراب » .

وقال بعض شعراء الجاهلية :

إلى عرق الثرى وشجت عروقي *** وهذا الموت يسلبني شبابي

وفسره الشراح بأن عرق الثرى هو آدم ، فعلى هذا يكون التأويل على حذف مضاف إما في { خلقكم } أي خلق أصلكم ، وإما في { من طين } أي من عرق طين وفرعه .

{ ثم قضى أجلاً وأجلّ مسمى عنده ثم أنتم تمترون } { قضى } إن كانت هنا بمعنى قدر وكتب ، كانت { ثم } هنا للترتيب في الذكر لا في الزمان لأن ذلك سابق على خلقنا ، إذ هي صفة ذات وإن كانت بمعنى أظهر ، كانت للترتيب الزماني على أصل وضعها ، لأن ذلك متأخر عن خلقنا فهي صفة فعل والظاهر من تنكير الأجلين أنه تعالى أبهم أمرهما .

وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة : الأول أجل الدنيا من وقت الخلق إلى الموت ، والثاني أجل الآخرة لأن الحياة في الآخرة لا انقضاء لها ، ولا يعلم كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى ، وروي عن ابن عباس أن الأول هو وفاته بالنوم والثاني بالموت .

وقال أيضاً : الأول أجل الدنيا والثاني الآخرة .

وقال مجاهد أيضاً : الأول الآخرة .

والثاني الدنيا .

وقال ابن زيد : الأول هو في وقت أخذ الميثاق على بني آدم حين استخرجهم من ظهر آدم ، والمسمى في هذه الحياة الدنيا .

وقال أبو مسلم : الأول أجل الماضين ، والثاني أجل الباقين ، ووصفه بأنه مسمى عنده لأنه تعالى مختص به بخلاف الماضين ، فإنهم لما ماتوا علمت آجالهم .

وقيل : الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث ، وهو البرزخ .

وقيل : الأول مقدار ما انقضى من عمر كل إنسان ، والثاني مقدار ما بقي .

وقيل : الأول أجل الأمم السالفة ، والثاني أجل هذه الأمة .

وقيل : الأول ما علمناه أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، والثاني من الآخرة ، وقيل : الأول ما عرف الناس من آجال الأهلة والسنين والكوائن ، والثاني قيام الساعة .

وقيل : الأول من أوقات الأهلة وما أشبهها ، والثاني موت الإنسان .

وقال ابن عباس ومجاهد أيضاً { قضى أجلاً } بانقضاء الدنيا والثاني لابتداء الآخرة .

وروي عن ابن عباس أنه قال : لكل أحد أجلان ، فإن كان تقياً وصولاً للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر ، وإن كان بالعكس نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث .

وقال أبو عبد الله الرازي : لكل إنسان أجلان الطبيعي والاخترامي .

فالطبيعي : هو الذي لو بقي ذلك المزاج مصوناً عن العوارض الخارجة لانتهت مدة بقائه إلى الأوقات الفلكية .

والاخترامي : هو الذي يحصل بسبب الأسباب الخارجية كالحرق والغرق ولدغ الحشرات ، وغيرها من الأمور المنفصلة ، انتهى .

وهذا قول المعتزلة وهو نقله عنهم وقال : هذا قول حكماء الإسلام ، انتهى ومعنى { مسمى عنده } معلوم عنده أو مذكور في اللوح المحفوظ ، وعنده مجاز عن علمه ولا يراد به المكان .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفاً وجب تقديمه فلم جاز تقديمه في قوله : { وأجل مسمى عنده } .

( قلت ) : لأنه تخصيص بالصفة فقارب المعرفة ، كقوله : { ولعبد مؤمن خير من مشرك } انتهى .

وهذا الذي ذكره من مسوغ الابتداء بالنكرة لكونها وصفت لا يتعين هنا أن يكون هو المسوغ ، لأنه يجوز أن يكون المسوغ هو التفصيل لأن من مسوغات الابتداء بالنكرة ، أن يكون الموضع موضع تفصيل نحو قوله :

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له *** بشق وشق عندنا لم يحول

وقد سبق كلامنا على هذا البيت وبينا أنه لا يجوز أن يكون عندنا في موضع الصفة ، بل يتعين أن يكون في موضع الخبر .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الكلام السائر أن يقال : عندي ثوب جيد ولي عبد كيس وما أشبه ذلك .

( قلت ) : أوجبه أن المعنى وأي { أجل مسمى عنده } تعظيماً لشأن الساعة فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم ؛ انتهى .

وهذا لا يجوز لأنه إذا كان التقدير وأي { أجل مسمى عنده } كانت أي صفة لموصوف محذوف تقديره وأجل أي { أجل مسمى عنده } ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أياً ولا حذف موصوفها وإبقاؤها ، فلو قلت مررت بأي رجل تريد برجل أيّ رجل لم يجز ، { وتمترون } معناه تشكون أو تجادلون جدال الشاكين ، والتماري المجادلة على مذهب الشك قاله بعض المفسرين .

والكلام في { ثم } هنا كالكلام فيها في قوله { ثم الذين كفروا } والذي يظهر لي أن قوله تعالى : { هو الذي خلقكم } على جهة الخطاب ، هو التفات من الغائب الذي هو قوله { ثم الذين كفروا } وإن كان الخلق وقضاء الأجل ليس مختصاً بالكفار إذ اشترك فيه المؤمن والكافر ، لكنه قصد به الكافر تنبيهاً له على أصل خلقه وقضاء الله تعالى عليه وقدرته ، وإنما قلت إنه من باب الالتفات لأن قوله { ثم أنتم تمترون } لا يمكن أن يندرج في هذا الخطاب من اصطفاه الله بالنبوة والإيمان .