حيث { جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أي : يتبع بعضهم بعضا متوالين ، ودعوتهم جميعا واحدة . { أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ } أي : يأمرونهم بالإخلاص للّه ، وينهونهم عن الشرك ، فردوا رسالتهم وكذبوهم ، { قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً } أي : وأما أنتم فبشر مثلنا { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } وهذه الشبهة لم تزل متوارثة بين المكذبين ، من الأمم{[772]} وهي من أوهى الشُّبَهِ ، فإنه ليس من شرط الإرسال ، أن يكون المرسل مَلَكًا ، وإنما شرط الرسالة ، أن يأتي الرسول بما يدل على صدقه ، فَلْيَقْدَحُوا ، إن استطاعوا بصدقهم ، بقادح عقلي أو شرعي ، ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلا .
{ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } [ الأحقاف : 21 ] ، كقوله تعالى : { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } [ الأحقاف : 21 ] أي : في القرى المجاورة لبلادهم ، بعث الله إليهم الرسل يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له ، ومبشرين ومنذرين ورأوا ما أحل الله بأعدائه من النقم ، وما ألبس{[25646]} أولياءه من النعم ، ومع هذا ما آمنوا ولا صدقوا ، بل كذبوا وجحدوا ، وقالوا : { لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً } أي : لو أرسل الله رسلا{[25647]} لكانوا ملائكة من عنده ، { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي : أيها البشر { كَافِرُونَ } أي : لا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا .
وقوله : إذْ جاءَتُهُمْ الرّسُلُ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ يقول : فقل : أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود التي أهلكتهم ، إذ جاءت عادا وثمود الرسل من بين أيديهم فقوله «إذ » من صلة صاعقة . وعنى بقوله : مِنْ بَينِ أيْدِيهِمْ الرسل التي أتت آباء الذين هلكوا بالصاعقة من هاتين الأمتين . وعنى بقوله : وَمِنْ خَلْفِهِمْ : من خلف الرسل الذين بعثوا إلى آبائهم رسلاً إليهم ، وذلك أن الله بعث إلى عاد هودا ، فكذّبوه من بعد رسل قد كانت تقدمته إلى آبائهم أيضا ، فكذّبوهم ، فأهلكوا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فإن أعْرَضُوا . . . إلى قوله : وَمِنْ خَلْفِهِمْ قال : الرسل التي كانت قبل هود ، والرسل الذين كانوا بعده ، بعث الله قبله رسلاً ، وبعث من بعده رسلاً .
وقوله : ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ اللّهَ يقول تعالى ذكره : جاءتهم الرسل بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له ، قالوا : لَوْ شاءَ رَبّنا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً يقول جلّ ثناؤه : فقالوا لرسلهم إذ دعوهم إلى الإقرار بتوحيد الله : لو شاء ربنا أن نوحده ، ولا نعبد من دونه شيئا غيره ، لأنزل إلينا ملائكة من السماء رسلاً بما تدعوننا أنتم إليه ، ولم يرسلكم وأنتم بشر مثلنا ، ولكنه رضى عبادتنا ما نعبد ، فلذلك لم يرسل إلينا بالنهي عن ذلك ملائكة .
وقوله : فإنّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ يقول : قال لرسلهم : فإنا بالذي أرسلكم به ربكم إلينا جاحدون غير مصدّقين به .
{ إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله }
وضمير { جاءتهم } عائد إلى عاد وثمود باعتبار عدد كل قبيلة منهما . وجَمْع الرسل هنا من باب إطلاق صيغة الجمع على الاثنين مثل قوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] ، والقرينة واضحة وهو استعمالٌ غير عزيز ، وإنما جاءهم رسولان هود وصالح .
وقوله : { مِن بين أيْدِيهم ومِن خَلْفِهِم } تمثيل لحرص رسول كل منهم على هداهم بحيث لا يترك وسيلة يَتوسل بها إلى إبلاغهم الدين إلا توسل بها . فمُثِّل ذلك بالمجيء إلى كل منهم تارة من أمامه وتارة من خلفه لا يترك له جهة ، كما يفعل الحريص على تحصيل أمرٍ أَن يتطلبه ويعيد تطلبه ويستوعب مظانّ وجوده أو مظانّ سماعه ، وهذا التمثيل نظير الذي في قوله تعالى حكاية عن الشيطان { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } [ الأعراف : 17 ] .
وإنما اقتصر في هذه الآية على جهتين ولم تُستوعب الجهات الأربع كما مُثل حال الشيطان في وسوسته لأن المقصود هنا تمثيل الحرص فقط وقد حصل ، والمقصود في الحكاية عن الشيطان تمثيل الحرص مع التلهف تحذيراً منه وإثارة لبُغضه في نفوس الناس . و { أَلاَّ تعبدوا إلا الله } تفسير لِجملة { جَآءَتهُمُ الرُّسُلُ } لتضمن المجيء معنى الإبلاغ بقرينة كون فاعل المجيء متصفاً بأنهم رسُل ، فتكون ( أَنْ ) تفسيرية ل { جاءتهم } بهذا التأويل كقول الشاعر :
إِنْ تحمِلا حاجة لي خفٌ مَحْمَلُها *** تَسْتَوْجبَا مِنةً عندي بها ويَدا
أَنْ تَقرَآنِ على أسماءَ ويحكمـا *** مني السَّلام وأن لا تُشعرا أحدا
إذ فسر الحاجة بأن يقرأ السلام على أسماء لأنه أراد بالحاجة الرسالة ، وهذا جري على رأي الزمخشري والمحققين من عدم اشتراط تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه بل الاكتفاء بتقدم ما أريد به معنى القول ولو لم يكن جملة خلافاً لما أطال به صاحب « مغني اللبيب » من أبحاث لا يرضاها الأريب ، أو لما يتضمنه عنوان { الرسل } من إبلاغ رسالة .
{ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لاََنزَلَ ملائكة فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون }
حكاية جواب عاد وثمود لرسولَيْهم فقد كان جواباً متماثلاً لأنه ناشىء عن تفكير متماثل وهو أن تفكير الأذهان القاصرة من شأنه أن يبنَى على تصورات وهمية وأقيسة تخييلية وسفسطائية ، فإنهم يتصورون صفات الله تعالى وَأفعاله على غير كنهها ويقيسونها على أحوال المخلوقات ، ولذلك يتماثل في هذا حالُ أهل الجهالة كما قال تعالى : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [ الذاريات : 52 ، 53 ] ، أي بل هم متماثلون في الطغيان ، أي الكفر الشديد فتملي عليهم أوهامهم قضايا متماثلة .
ولكون جوابهم جَرَى في سياق المحاورة أتتْ حكاية قولهم غير معطوفة بأسلوب المقاولة ، كما تقدم قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] فإن قول الرسل لهم : لا تعبدوا إلا الله قد حكي بفعل فيه دلالة على القول ، وهو فعل { جاءتهم } كما تقدم آنفاً .
فقولهم : { لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً } يتضمن إبطال رسالة البشر عن الله تعالى .
ومفعول { شاء } محذوف دل عليه السياق ، أي لو شاء ربنا أن يرسل إلينا لأنزل ملائكة من السماء مرسَلين إلينا ، وهذا حذف خاص هو غير حذف مفعول فعل المشيئة الشائع في الكلام لأن ذلك فيما إذا كان المحذوف مدلولاً عليه بجواب { لوْ } كقوله تعالى : { فلو شاء لهداكم أجمعين } [ الأنعام : 149 ] ، ونكتته الإِبهام ثم البيان ، وأما الحذف في الآية فهو للاعتماد على قرينة السياق والإيجاز وهو حذف عزيز لمفعول فعل المشيئة ، ونظيره قول المعري :
وإنْ شئتَ فازعُم أَنَّ مَن فوقَ ظهرها *** عَبيدُكَ واستَشْهِدْ إلهَكَ يَشْهَدِ
وتضمن كلامهم قياساً استثنائياً تركيبه : لو شاء ربنا أن يرسل رسولاً لأرسل ملائكة ينزلهم من السماء لكنه لم ينزل إلينا ملائكة فهو لم يشأ أن يرسل إلينا رسولاً . وهذا إيماء إلى تكذيبهم الرسل ولهذا فرعوا عليه قولهم : { فَإنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بهِ كافرون } أي جاحدون رسالتكم وهو أيضاً كناية عن التكذيب .