{ 11-13 } { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا * وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا }
يذم تعالى المتخلفين عن رسوله ، في الجهاد في سبيله ، من الأعراب الذين ضعف إيمانهم ، وكان في قلوبهم مرض ، وسوء ظن بالله تعالى ، وأنهم سيعتذرون بأن أموالهم وأهليهم شغلتهم عن الخروج في الجهاد ، وأنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم ، قال الله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } فإن طلبهم الاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على ندمهم وإقرارهم على أنفسهم بالذنب ، وأنهم تخلفوا تخلفا يحتاج إلى توبة واستغفار ، فلو كان هذا الذي في قلوبهم ، لكان استغفار الرسول نافعا لهم ، لأنهم قد تابوا وأنابوا ، ولكن الذي في قلوبهم ، أنهم إنما تخلفوا لأنهم ظنوا بالله ظن السوء .
يقول تعالى مخبرا رسوله {[26835]} - صلوات الله وسلامه عليه{[26836]} - بما يعتذر به المخلفون من الأعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم ( {[26837]}3 ) ، وتركوا المسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعتذروا بشغلهم بذلك ، وسألوا أن يستغفر لهم الرسول{[26838]} صلى الله عليه وسلم ، وذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد ، بل على وجه التقية والمصانعة ؛ ولهذا قال تعالى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا } أي : لا يقدر أحد أن يرد ما أراده فيكم تعالى وتقدس ، وهو العليم بسرائركم وضمائركم ، وإن صانعتمونا وتابعتمونا{[26839]} ؛ ولهذا قال : { بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : سيقول لك يا محمد الذين خلفهم الله في أهليهم عن صحبتك ، والخروج معك في سفرك الذي سافرت ، ومسيرك الذي سرت إلى مكة معتمرا ، زائرا بيت الله الحرام إذا انصرفت إليهم ، فعاتبتهم على التخلف عنك ، شغلتنا عن الخروج معك معالجة أموالنا ، وإصلاح معايشنا وأهلونا ، فاستغفر لنا ربنا لتخلّفنا عنك ، قال الله جلّ ثناؤه مكذّبهم في قيلهم ذلك : يقول هؤلاء الأعراب المخلّفون عنك بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، وذلك مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفار لهم ، يقول : يسألونه بغير توبة منهم ولا ندم على ما سلف منهم من معصية الله في تخلفهم عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسير معه قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا يقول تعالى ذكره لنبيه : قل لهؤلاء الأعراب الذين يسألونك أن تستغفر لهم لتخلفهم عنك : إن أنا استغفرت لكم أيها القوم ، ثم أراد الله هلاككم أو هلاك أموالكم وأهليكم ، أو أراد بكم نفعا بتثميره أموالكم وإصلاحه لكم أهليكم ، فمن ذا الذي يقدر على دفع ما أراد الله بكم من خير أو شرّ ، والله لا يعازّه أحد ، ولا يغالبه غالب .
وقوله : بلَ كانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبيرا يقول تعالى ذكره : ما الأمر كما يظنّ هؤلاء المنافقون من الأعراب أن الله لا يعلم ما هم عليها منطوون من النفاق ، بل لم يزل الله بما يعملون من خير وشرّ خبيرا ، لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه ، سرّها وعلانيتها ، وهو محصيها عليهم حتى يجازيهم بها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكر عنه حين أراد المسير إلى مكة عام الحُديبية معتمرا استنفر العرب ومن حول مدينته من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه حذرا من قومه قريش أن يعرضوا له الحرب ، أو يصدّوه عن البيت ، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم بالعمرة ، وساق معه الهدي ، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا ، فتثاقل عنه كثير من الأعراب ، وتخلّفوا خلافه فهم الذين عَنَى الله تبارك وتعالى بقوله : سَيَقُول لَكَ المُخَلّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنا أمْوَالُنا وأهْلُونا . . . الآية .
وكالذي قلنا في ذلك قال أهل العلم بسِيَر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه ، منهم ابن إسحاق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق بذلك .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : سَيَقُولُ لَكَ المُخَلّفُونَ مِنَ الأعْرَاب شَغَلَتْنا أمْوَالُنا وأهْلُونا قال : أعراب المدينة : جهينة ومزينة ، استتبعهم لخروجه إلى مكة ، قالوا : نذهب معه إلى قوم قد جاؤوه ، فقتلوا أصحابه فنقاتلهم فاعتلوا بالشغل .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إنْ أرَادَ بِكُمْ ضَرّا فقرأته قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة ضَرّا بفتح الضاد ، بمعنى : الضرّ الذي هو خلاف النفع . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين «ضُرّا » بضم الضاد ، بمعنى البؤس والسّقم .
وأعجب القراءتين إليّ الفتح في الضاد في هذا الموضع بقوله : أوْ أرَادَ بِكُمْ نَفْعا ، فمعلوم أن خلاف النفع الضرّ ، وإن كانت الأخرى صحيحا معناها .
{ المخلفون من الأعراب } قال مجاهد وغيره : هم جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل ، فإنهم في خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرته عام الحديبية رأوا أنه يستقبل عدواً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة ، وهم الأحابيش ، ولم يكن تمكن إيمان أولئك الأعراب المجاورين للمدينة فقعدوا عن النبي عليه السلام وتخلفوا ، وقالوا لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة ، ففضحهم الله في هذه الآية ، وأعلم محمد بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم ، فكان كذلك ، قالوا : شغلتنا الأموال والأهلون فاستغفر لنا ، وهذا منهم خبث وإبطال ، فلذلك قال تعالى : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم }{[10412]} قال الرماني : لا يقال أعرابي إلا لأهل البوادي خاصة ، ثم قال لنبيه عليه السلام { قل } لهم : { فمن يملك لكم من الله شيئاً } أي من يحمي منه أموالكم وأهليكم إن أراد بكم فيها سوءاً .
وقرأ جمهور القراء : «إن أراد بكم ضَراً » بفتح الضاد . وقرأ حمزة والكسائي : «ضُراً » بالضم ، ورجحها أبو علي وهما لغتان . وفي مصحف ابن مسعود . «إن أراد بكم سوءاً » . ثم رد عليهم بقوله : { بل كان الله بما تعملون خبيراً } .