أخبر تعالى عما أحلّ بالقرون الماضية ، في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات ، ثم استخلف الله هؤلاء القومَ من بعدهم ، وأرسل إليهم رسولا لينظر طاعتهم له ، واتباعهم رسوله ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي نَضْرَة ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا حلوة خَضِرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " {[14093]} . وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد{[14094]} حدثنا حماد ، عن ثابت
البُناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ؛ أن عوف بن مالك قال لأبي بكر : رأيت فيما يرى النائم كأن سَبَبًا دُلِّي من السماء ، فانتُشط رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أعيد ، فانتُشط أبو بكر ، ثم ذُرعَ{[14095]} الناس حول المنبر ، ففضل عمر بثلاث أذرع إلى المنبر . فقال عمر : دعنا من رؤياك ، لا أرَبَ لنا فيها ! فلما استخلف عمر قال : يا عوف ، رؤياك ! فقال : وهل لك في رؤياي من حاجة ؟ أولم تنتهرني{[14096]} ؟ فقال : ويحك ! إني : كرهت أن تنعَى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ! فقصّ عليه الرؤيا ، حتى إذا بلغ : " ذُرع{[14097]} الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع " ، قال : أما إحداهن فإنه كائن خليفة . وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم . وأما الثالثة فإنه شهيد . قال : فقال : يقول الله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } فقد استُخلفت{[14098]} يا ابن أم عمر ، فانظر كيف تعمل ؟ وأما قوله : " فإني لا أخاف في الله لومة لائم " ، فما شاء الله ! وأما قوله : [ إني ]{[14099]} شهيد فَأَنَّى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به{[14100]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد أهلكنا الأمم التي كذّبت رسل الله من قبلكم أيها المشركون بربهم لما ظَلَمُوا يقول : لما أشركوا وخالفوا أمر الله ونهيه . وجاءَتْهُمْ رُسُلُهمْ من عند الله ، بالبَيّناتِ وهي الاَيات والحجج التي تبين عن صدق من جاء بها . ومعنى الكلام : وجاءتهم رسلهم بالاَيات البينات أنها حقّ . وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا يقول : فلم تكن هذه الأمم التي أهلكناها ليؤمنوا برسلهم ويصدّقوهم إلى ما دعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له . كذلكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ يقول تعالى ذكره : كما أهلكنا هذه القرون من قبلكم أيها المشركون بظلمهم أنفسهم وتكذيبهم رسلهم وردّهم نصيحتهم ، كذلك أفعل بكم فأهلككم كما أهلكتهم بتكذيبكم رسولكم محمدا صلى الله عليه وسلم ، وظلمكم أنفسكم بشرككم بربكم ، إن أنتم لم تنيبوا وتتوبوا إلى الله من شرككم ، فإن من ثواب الكافر بي على كفره عندي أن أهلكه بسخطي في الدنيا وأورده النار في الاَخرة .
{ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم } يا أهل مكة . { لما ظلموا } حين ظلموا بالتكذيب واستعمال القوى والجوارح لا على ما ينبغي { وجاءتهم رسلهم بالبينات } بالحجج الدالة على صدقهم وهو حال من الواو بإضمار قد أو عطف على ظلموا . { وما كانوا ليؤمنوا } وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله لهم وعلمه بأنهم يموتون على كفرهم ، واللام لتأكيد النفي . { كذلك } مثل ذلك الجزاء وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرسل وإصرارهم عليه بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم { نجزي القوم المجرمين } نجزي كل مجرم أو نجزيكم فوضع المظهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم وأنهم أعلام فيه .
عاد الخطاب إلى المشركين عودا على بدئه في قوله : { إن ربكم الله } إلى قوله { لتعلموا عدد السنين والحساب } [ يونس : 3 5 ] بمناسبة التماثل بينهم وبين الأمم قبلهم في الغرور بتأخير العذاب عنهم حتى حل بهم الهلاك فجأة . وهذه الآية تهديد وموعظة بما حل بأمثالهم .
والجملة معطوفة على جملة : { ولو يعجل الله للناس الشر } [ يونس : 11 ] بما تضمنته من الإنذار بأن الشر قد ينزل بهم ولكن عذاب الله غير معجل ، فضرب لهم مثلاً بما نزل بالأمم من قبلهم فقضَى إليهم بالعذاب أجلُهم وقد كانوا يعرفون أمما منهم أصابهم الاستيصال مثل عاد وثمود وقوم نوح .
ولتوكيد التهديد والوعيد أكدت الجملة بلام القسم وقد التي للتحْقيق .
والإهلاك : الاستيصال والإفناء .
والقرون : جمع قرن وأصله مدة طويلة من الزمان ، والمراد به هنا أهل القرون . وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } في سورة [ الأنعام : 6 ] .
وقوله : من قبلكم } حال من القرون .
و { لمّا } اسم زمان بمعنى حين على التحقيق ، وتضاف إلى الجملة .
والعرب أكثروا في كلامهم تقديم ( لما ) في صدر جملتها فأشِمَّت بذلك التقديم رائحة الشرطية فأشبهت الشروط لأنها تضاف إلى جملة فتشبه جملةَ الشرط ، ولأن عاملها فعل مُضي فبذلك اقتضت جملتين فأشبهت حروفَ الشرط .
والمعنى : أهلكناهم حينما ظلموا ، أي أشركوا وجاءتهم رسلهم بالبينات مثل هود وصالح ولم يؤمنوا .
وجملة : { وجاءتهم } معطوفة على جملة { ظلموا } .
والبينات : جمع بينة ، وهي الحجة على الصدق ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فقد جاءكم بينة من ربكم } في سورة [ الأنعام : 157 ] .
وجملة : { وما كانوا ليؤمنوا } معطوفة عليها . ومجموع الجمل الثلاث هو ما وُقِّت به الإهلاك { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا } [ القصص : 59 ] .
وعبر عن انتفاء إيمانهم بصيغة لام الجحود مبالغة في انتفائه إشارة إلى اليأس من إيمانهم .
وجملة : { كذلك نجزي القوم المجرمين } تذييل . والتعريف في { القوم المجرمين } للاستغراق فلذلك عم القرون الماضية وعم المخاطبين ، وبذلك كان إنذاراً لقريش بأن ينالهم ما نال أولئك . والمُراد بالإجرام أقصاه ، وهو الشرك .
والقول في { كذلك نجزي القوم المجرمين } كالقول في نظيره آنفاً . وكذلك ذكر لفظ ( القوم ) فهو كما في نظيره في هذه السورة وفي البقرة .