وقال قتادة{[30091]} { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ } ثم أخبر عن اقتحامها . فقال : { فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ }
وقال ابن زيد : { اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } أي : أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير . ثم بينها فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ }
قرئ : { فَكُّ رَقَبَةٍ } بالإضافة ، وقُرئ على أنه فعل ، وفيه ضمير الفاعل والرقبة مفعوله وكلتا{[30092]} القراءتين معناهما متقارب .
قال الإمام أحمد : حدثنا علي{[30093]} بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله - يعني ابن سعيد{[30094]} بن أبي هند - عن إسماعيل بن أبي حكيم - مولى آل الزبير - عن سعيد بن مرجانة : أنه سمع أبا هُرَيرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرْب منها إربا منه من النار ، حتى إنه ليعتق باليد اليد ، وبالرجل الرجل ، وبالفرج الفرج " . فقال علي بن الحسين : أنتَ سَمعتَ هذا من أبي هُرَيرة ؟ فقال سعيد : نعم . فقال علي بن الحسين لغلام له - أفْرَهَ غلمانه - : ادعُ مطرفًا . فلما قام بين يديه قال : اذهب فأنت حُر لوجه الله .
وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ، من طرق ، عن سعيد بن مرجانة ، به{[30095]} وعند مسلم أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم .
وقال قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مَعدانَ بن أبي طلحة ، عن أبي نَجِيح{[30096]} قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أيما مسلم أعتقَ رَجُلا مسلما ، فإن الله جاعلٌ وفاء كل عظم من عظامه عظمًا من عظام محرره من النار ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة ، فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامها عظما من عظامها من النار " .
رواه ابن جرير هكذا{[30097]} وأبو نجيح هذا هو عمرو بن عَبسَةَ السلمي ، رضي الله عنه .
قال الإمام أحمد : حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا بقية ، حدثني بَحير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن كثير بن مرة ، عن عمرو بن عَبسَة{[30098]} أنه حدثهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من بنى مسجدا ليذكر الله فيه ، بنى الله له بيتا في الجنة . ومن أعتق نفسًا مسلمة ، كانت فديته من جهنم . ومن شاب شيبة في الإسلام ، كانت له نورا يوم القيامة " {[30099]} .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا حَريز ؛ عن سُليم بن عامر : أن شرحبيل بن السمط قال لعمرو بن عَبسةَ{[30100]} حَدِّثنا حديثًا ليس فيه تَزَيّد ولا نسيان . قال عمرو : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أعتق رقبة مسلمة كانت فكاكه من النار ، عُضْوا بعضو . ومن شاب شيبة في سبيل الله ، كانت له نورا يوم القيامة ، ومن رمى بسهم فبلغ فأصاب أو أخطأ ، كان كمعتق رقبة من بني إسماعيل " {[30101]} .
وروى أبو داود ، والنسائي بعضه{[30102]} .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الفرج ، حدثنا لقمان ، عن أبي أمامة ، عن عمرو بن عَبسَةَ{[30103]} قال السلمي{[30104]} قلت له : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاص ولا وَهم . قال : سمعته يقول : " من وُلد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحِنْثَ ، أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة ، ومن رَمى بسهم في سبيل الله ، بلغ به العدو ، أصاب أو أخطأ ، كان له عتق رقبة . ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار ، ومن أنفق زوجين في سبيل الله ، فإن للجنة ثمانية أبواب ، يدخله الله من أي باب شاء منها " {[30105]} .
وهذه أسانيد جيدة قوية ، ولله الحمد [ والمنة ]{[30106]} .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا عيسى بن محمد الرملي ، حدثنا ضَمْرة ، عن ابن أبي عَبلَة ، عن الغريف بن الديلمي قال : أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له : حدثنا حَديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان . فغضب وقال : إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته ، فيزيد وينقص . قلنا : إنما أردنا حديثًا سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب - يعني النار - بالقتل ، فقال : " أعتقوا عنه يُعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار " .
وكذا رواه النسائي من حديث إبراهيم بن أبي عَبلة ، عن الغَريف بن عياش الديلمي ، عن واثلة ، به{[30107]} .
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن قيس الجذامي ، عن عقبة بن عامر الجهني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أعتق رقبة مسلمة فهو فداؤه من النار " {[30108]} .
وحدثنا عبد الوهاب الخفاف ، عن سعيد ، عن قتادة قال : ذُكِر أن قيسا الجذامي حَدّث عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار " {[30109]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم وأبو أحمد قالا حدثنا عيسى بن عبد الرحمن البجلي - من بني بجيلة - من بني سليم - عن طلحة - قال أبو أحمد : حدثنا طلحة بن مصرف - عن عبد الرحمن بن عوسجة ، عن البراء بن عازب قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، علمني عملا يدخلني الجنة . فقال : " لئن كنت أقصرتَ الخطبة لقد أعرضت المسألة . أعتق النسمة ، وفك الرقبة " . فقال : يا رسول الله ، أوليستا بواحدة ؟ قال : " لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في عتقها . والمنحةُ الوَكُوف{[30110]} ، والفيء على ذي الرحم الظالم ؛ فإن لم تُطِق ذلك فأطعم الجائعَ ، واسْقِ الظمآن ، وأمر بالمعروف ، وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير " {[30111]} .
وقوله : وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ ؟ يقول تعالى ذكره : وأيّ شيء أشعرك يا محمد ما العقبة ؟ .
ثم بين جلّ ثناؤه له ، ما العقبة ، وما النجاة منها ، وما وجه اقتحامها ؟ فقال : اقتحامها وقطعها فكّ رقبة من الرقّ ، وأسر العبودة ، كما :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلّية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ فَكّ رَقَبَةٍ قال : ذُكر لنا أنه ليس مسلم يعتق رقبة مسلمة ، إلا كانت فداءه من النار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ فَكّ رَقَبَةٍ ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الرقاب أيها أعظم أجرا ؟ قال : «أكثرها ثمنا » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا سالم بن أبي الجعد ، عن مَعْدان بن أبي طلحة ، عن أبي نجيح ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «أيّمَا مُسْلِم أعْتَقَ رَجُلاً مُسْلما ، فإنّ اللّهَ جاعِلُ وَفاءَ كُلّ عَظْيمٍ مِنْ عِظامِهِ ، عَظْما مِنْ عِظامِ مُحَرّرهِ مِنَ النّارِ وأيّمَا امْرأةٍ مُسْلَمَةٍ أعْتَقَتْ امْرأةً مُسْلِمَةً ، فإنّ اللّهَ جاعِلُ وَفاءَ كُلّ عَظْمٍ مِنْ عِظامِها ، عَظْما مِنْ عِظامِ مُحَرّرِها مِنَ النّارِ » .
قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن قيس الجُذاميّ ، عن عقبة بن عامر الجُهَنيّ ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ أعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً ، فَهِيَ فِدَاؤُهُ مِنَ النّارِ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ ثم أخبر عن اقتحامها فقال : فَكّ رَقَبَة أوْ أطْعَمَ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء البصرة ، عن ابن أبي إسحاق ، ومن الكوفيين : الكسائي : «فَكّ رَقَبَةٍ أوْ أطْعَمَ » . وكان أبو عمرو بن العلاء يحتجّ فيما بلغني فيه بقوله : ثُمّ كانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا كأن معناه : كان عنده ، فلا فكّ رقبة ، ولا أطعم ، ثم كان من الذين آمنوا . وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والشأم فَكّ رَقَبَةٍ على الإضافة أوْ إطْعامٌ على وجه المصدر .
والصواب من القول في ذلك : أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وتأويل مفهوم ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . فقراءته إذا قرىء على وجه الفعل تأويله : فلا اقتحم العقبة ، لا فكّ رقبة ، ولا أطعم ، ثم كان من الذين آمنوا ، وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ على التعجب والتعظيم . وهذه القراءة أحسن مخرجا في العربية ، لأن الإطعام اسم ، وقوله : ثُمّ كانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا فعل ، والعرب تُؤْثِر ردّ الأسماء على الأسماء مثلها ، والأفعال على الأفعال ، ولو كان مجيء التّنزيل ثم إن كان من الذين آمنوا ، كان أحسن ، وأشبه بالإطعام والفكّ من ثم كان ، ولذلك قلت : «فَكّ رَقَبَةٍ أوْ أطْعَمَ » أوجه في العربية من الاَخر ، وإن كان للاَخر وجه معروف ، ووجهه أنْ تضمر أن ثم تلقى ، كما قال طرفة بن العبد :
ألا أيّهاذا الزّاجري أحْضُرَ الْوَغَى *** وأنْ أشْهَدَ اللّذّاتِ هَلْ أنتَ مُخْلِدي
بمعنى : ألا أيهاذا الزاجري أن أحضر الوغى . وفي قوله : «أن » أشهد الدلالة البنية على أنها معطوفة على أن أخرى مثلها ، قد تقدّمت قبلها ، فذلك وجه جوازه . وإذا وُجّه الكلام إلى هذا الوجه كان قوله : فَكّ رَقَبَةٍ أوْ إطْعامٌ تفسيرا لقوله : وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ كأنه قيل : وما أدراك ما العقبة ؟ هي فكّ رقبة أوْ إطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ كما قال جلّ ثناؤه : وَما أدْرَاكَ ماهِيَهْ ، ثم قال : نارٌ حامِيَةٌ مفسرا لقوله : وأُمّهُ هاوِيَةٌ ، ثم قال : وما أدراك ما الهاوية ؟ هي نار حامية .
فلا أقتحم العقبة أي فلم يشكر تلك الأيادي باقتحام العقبة وهو الدخول في أمر شديد و العقبة الطريق في الجبل استعارها بما فسرها عز وجل من الفلك والإطعام في قوله وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة لما فيهما من مجاهدة النفس ولتعدد المراد بها حسن وقوع لا موقع لم فإنها لا تكاد تقع إلا مكررة إذ المعنى فلا فك رقبة ولا أطعم يتيما أو مسكينا والمسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب وترب إذا افتقر وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي فك رقبة أو أطعم على الإبدال من اقتحم وقوله تعالى وما أدراك ما العقبة اعترض معناه إنك لم تدركنه صعوبتها وثوابها .