والمقسم عليه قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } يحتمل أن المراد بذلك ما يكابده ويقاسيه من الشدائد في الدنيا ، وفي البرزخ ، ويوم يقوم الأشهاد ، وأنه ينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من هذه الشدائد ، ويوجب له الفرح والسرور الدائم .
وإن لم يفعل ، فإنه لا يزال يكابد العذاب الشديد أبد الآباد .
ويحتمل أن المعنى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، وأقوم خلقة ، مقدر{[1429]} على التصرف والأعمال الشديدة ، ومع ذلك ، [ فإنه ] لم يشكر الله على هذه النعمة [ العظيمة ] ، بل بطر بالعافية وتجبر على خالقه ، فحسب بجهله وظلمه أن هذه الحال ستدوم له ، وأن سلطان تصرفه لا ينعزل ، ولهذا قال تعالى : { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ }
وقوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } رُوي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، وخَيْثَمة ، والضحاك ، وغيرهم : يعني منتصبا - زاد ابن عباس في رواية عنه - في{[30079]} بطن أمه .
والكبد : الاستواء والاستقامة . ومعنى هذا القول : لقد خلقنا الإنسان سويا مستقيما كقوله : { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } [ الانفطار : 6 ، 7 ] ، وكقوله { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] .
وقال ابن [ أبي نجيحُ ]{[30080]} جريج وعطاء{[30081]} عن ابن عباس : في كبد ، قال : في شدّة خُلق ، ألم تر إليه ، وذكر مولده ونبات أسنانه .
قال مجاهد : { فِي كَبَدٍ } نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة يتكبد في الخلق - قال مجاهد : وهو كقوله : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } وأرضعته كرها ، ومعيشته كره ، فهو يكابد ذلك .
وقال سعيد بن جبير : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } في شدة وطَلَب معيشة . وقال عكرمة : في شدة وطول . وقال قتادة : في مشقة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو عاصم ، أخبرنا عبد الحميد بن جعفر ، سمعت محمد بن علي أبا جعفر الباقر سأل رجلا من الأنصار عن قول الله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } قال : في قيامه واعتداله . فلم يُنكر عليه أبو جعفر .
وروى من طريق أبي مودود : سمعت الحسن قرأ هذه الآية : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } قال : يكابد أمرا من أمر الدنيا ، وأمرا من أمر الآخرة - وفي رواية : يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة .
وقال ابن زيد : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } قال : آدم خلق في السماء ، فَسُمي ذلك الكَبَد .
واختار ابن جرير أن المراد [ بذلك ]{[30082]} مكابدة الأمور ومشاقها .
وقوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ وهذا هو جواب القسم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : وقع ها هنا القسم لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : لقد خلقنا ابن آدم في شدّة وعناء ونصب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ يقول : في نَصَب .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ، أنه قال في هذه الاَية : لَقَدْ خَلَقَنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ يقول : في شدّة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ حين خُلِق في مشقة لا يُلفى ابن آدم إلا مكابد أمر الدنيا والاَخرة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : فِي كَبَدٍ قال : يكابد أمر الدنيا والاَخرة .
وقال بعضهم : خُلِق خَلْقا لم نَخْلق خلقَه شيئا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عليّ بن رفاعة ، قال : سمعت الحسن يقول : لم يخلق الله خلقا يكابد ما يُكابد ابن آدم .
قال : ثنا وكيع ، عن عليّ بن رفاعة ، قال : سمعت سعيد بن أبي الحسن يقول : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : يكابد مصائب الدنيا ، وشدائد الاَخرة .
قال : ثنا وكيع ، عن النضر ، عن عكرِمة قال : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في شدّة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في شدّة .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : في شدّة معيشته ، وحمله وحياته ، ونبات أسنانه .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال : قال مجاهد الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : شدة خروج أسنانه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : شدّة .
وقال آخرون : معنى ذلك أنه خُلق منتصبا معتدل القامة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في انتصاب ، ويقال : في شدّة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حرمي بن عمارة ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عُمارة ، عن عكرِمة ، في قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في انتصاب ، يعني القامة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : منتصبا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، جميعا عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن شَدّاد ، في قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : معتدلاً بالقامة ، قال أبو صالح : معتدلاً في القامة .
حدثنا يحيى بن داود الواسطيّ ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح خَلَقْنا الإنْسانَ في كَبَدٍ قال : قائما .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : فِي كَبَدٍ خُلِق منتصبا على رجلين ، لم تخلق دابة على خلقه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مُغيرة ، عن مجاهد لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في صَعَد .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنه خُلق في السماء . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في السماء ، يسمى ذلك الكَبَد .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : معنى ذلك أنه خلق يُكابد الأمور ويُعالجها ، فقوله : فِي كَبَدٍ معناه : في شدّة .
وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب ، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب من معاني الكَبَد ومنه قول لبيد بن ربيعة :
عَيْنِ هِلاّ بَكَيْتِ أرْبَدَ إذْ *** قُمْنا وَقامَ الخُصُوم فِي كَبَدِ