ثم قال تعالى : { يمحق الله الربا } أي : يذهبه ويذهب بركته ذاتا ووصفا ، فيكون سببا لوقوع الآفات فيه ونزع البركة عنه ، وإن أنفق منه لم يؤجر عليه بل يكون زادا له إلى النار { ويربي الصدقات } أي : ينميها وينزل البركة في المال الذي أخرجت منه وينمي أجر صاحبها وهذا لأن الجزاء من جنس العمل ، فإن المرابي قد ظلم الناس وأخذ أموالهم على وجه غير شرعي ، فجوزي بذهاب ماله ، والمحسن إليهم بأنواع الإحسان ربه أكرم منه ، فيحسن عليه كما أحسن على عباده { والله لا يحب كل كفار } لنعم الله ، لا يؤدي ما أوجب عليه من الصدقات ، ولا يسلم منه ومن شره عباد الله { أثيم } أي : قد فعل ما هو سبب لإثمه وعقوبته .
ولكن لعل كثيرين يغريهم طول الأمد ، وجهل الموعد ، فيبعدون من حسابهم حساب الآخرة هذا ! فها هو ذا القرآن ينذرهم كذلك بالمحق في الدنيا والآخرة جميعا ، ويقرر أن الصدقات - لا الربا - هي التي تربو وتزكو ؛ ثم يصم الذين لا يستجيبون بالكفر والإثم . ويلوح لهم بكره الله للكفرة الآثمين :
( يمحق الله الربا ، ويربي الصدقات ، والله لا يحب كل كفار أثيم ) . .
وصدق وعيد الله ووعده . فها نحن أولاء نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثم تبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة . . إن الله يمحق الربا فلا يفيض على المجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس إلا القحط والشقاء . وقد ترى العين - في ظاهر الأمر - رخاء وإنتاجا وموارد موفورة ، ولكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد . وقد أشرنا من قبل إلى الشقوة النكدة التي ترين على قلوب الناس في الدول الغنية الغزيرة الموارد ؛ وإلى القلق النفسي الذي لا يدفعه الثراء بل يزيده . ومن هذه الدول يفيض القلق والذعر والاضطراب على العالم كله اليوم . حيث تعيش البشرية في تهديد دائم بالحرب المبيدة ؛ كما تصحو وتنام في هم الحرب الباردة ! وتثقل الحياة على أعصاب الناس يوما بعد يوم - سواء شعروا بهذا أم لم يشعروا - ولا يبارك لهم في مال ولا في عمر ولا في صحة ولا في طمأنينة بال !
وما من مجتمع قام على التكافل والتعاون - الممثلين في الصدقات المفروض منها والمتروك للتطوع - وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة ، والتطلع دائما إلى فضل الله وثوابه ، والاطمئنان دائما إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها . . ما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله - أفرادا وجماعات - في ما لهم ورزقهم ، وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم .
والذين لا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية ، هم الذين لا يريدون أن يروا ، لأن لهم هوى في عدم الرؤية ! أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمدا وقصدا من أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت ؛ فضغطوا عن رؤية الحقيقة !
( والله لا يحب كل كفار أثيم ) . .
وهذا التعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي - بعد تحريمه - من الكفار الآثمين ، الذين لا يحبهم الله . وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم ، ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة : لا إله إلا الله . محمد رسول الله . فالإسلام ليس كلمة باللسان ؛ إنما هو نظام حياة ومنهج عمل ؛ وإنكار جزء منه كإنكار الكل . . وليس في حرمة الربا شبهة ؛ وليس في اعتباره حلالا وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم . . والعياذ بالله . .
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( 276 )
{ يمحق } معناه : ينقص ويذهب ، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه ، { ويربي الصدقات } معناه ينميها ويزيد ثوابها تضاعفاً ، تقول : ربت الصدقة وأرباها الله تعالى ورباها وذلك هو التضعيف لمن يشاء ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله ، أو فلوه ، حتى يجيء يوم القيامة وأن اللقمة لعلى قدر أحد »( {[2719]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وقد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشع من بني آدم ، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق ، ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة( {[2720]} ) ، وقرأ ابن الزبير : «يُمحِّق الله » بضم الياء وكسر الحاء مشددة ، «ويرَبّي » بفتح الراء وشد الباء ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك .
وقوله تعالى : { والله لا يحب كل كفار أثيم } يقتضي أن الزجر في هذه الآيات للكفار المستحلين للربا القائلين على جهة التكذيب للشرع { إنما البيع مثل الربا }( {[2721]} ) ووصف الكفار ب { أثيم } ، إما مبالغة من حيث اختلف اللفظان ، وإما ليذهب الاشتراك الذي في كفار ، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض( {[2722]} ) ، قاله ابن فورك( {[2723]} ) قال ومعنى قوله : { والله لا يحب } أي لا يحب الكفار الأثيم .
قال القاضي أبو محمد : محسناً صالحاً بل يريده مسيئاً فاجراً ، ويحتمل أن يريد والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم .
وهذه تأويلات مستكرهة ، أما الأول فأفرط في تعدية الفعل وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه ، وأما الثاني فغير صحيح المعنى ، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه ، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ولطف به ، وحرص على حفظه ، وتظهر دلائل ذلك ، والله تعالى يريد وجود الكافر( {[2724]} ) على ما هو عليه ، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه نحو ما ذكرناه في الشاهد ، وتلك المزية موجودة للمؤمن( {[2725]} ) .
استئناف لبيان سوء عاقبة الربا في الدنيا بعد أن بينت عاقبته في الآخرة ، فهو استئناف بياني لتوقُّع سؤالِ من يسأل عن حال هؤلاء الذين لا ينتهون بموعظة الله . وقوله : { ويربى الصدقات } استطراد لبيان عاقبة الصدقة في الدنيا أيضاً ببيان أنّ المتصدق يفوز بالخير في الدارين كما باء المرابي بالشر فيهما ، فهذا وعد ووعيد دنيويان .
والمَحْق هو كالمَحْو : بمعنى إزالة الشيء ، ومنه محاق القمر ذهاب نوره ليلة السِّرار . ومعنى { يمحق الله الربا } أنّه يتلف ما حصل منه في الدنيا ، { ويربي الصدقات } أي يضاعف ثوابها لأنّ الصدقة لا تقبل الزيادة إلاّ بمعنى زيادة ثوابها ، وقد جاء نظيره في قوله في الحديث : " مَن تصدّق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلاّ طيباً تلقاها الرحمان بيمينه وكِلْتَا يديه يمين فيُرْبيها له كما يُرْبِي أحدُكم فُلُوّه " . ولما جعل المحق بالربا وجُعل الإرباء بالصدقات كانت المقابلة مؤذنة بحذف مقابلين آخرين ، والمعنى : يمحق الله الربا ويعاقب عليه ، ويربي الصدقات ويبارك لصاحبها ، على طريقة الاحتباك .
وجملة : { والله لا يحب كل كفار أثيم } معترضة بين أحكام الربا . ولما كان شأن الاعتراض ألاّ يخلو من مناسبة بينه وبين سياق الكلام ، كان الإخبار بأنّ الله لا يحبّ جميع الكافرين مؤذناً بأنّ الربا من شعار أهل الكفر ، وأنّهم الذين استباحوه فقالوا إنّما البيع مثل الربا ، فكان هذا تعريضاً بأنّ المرابي متَّسم بخلال أهل الشرك .
ومفاد التركيب أنّ الله لا يحبّ أحداً من الكافرين الآثمين لأنّ ( كل ) من صيغ العموم ، فهي موضوعة لاستغراق أفراد ما تضاف إليه وليست موضوعة للدلالة على صُبرة مجموعة ، ولذلك يقولون هي موضوعة للكل الجميعي ، وأما الكل المَجموعي فلا تستعمل فيه كل إلاّ مجازاً . فإذا أضيفت ( كل ) إلى اسم استغرقتْ جميع أفراده ، سواء ذلك في الإثبات وفي النفي ، فإذا دخل النفي على ( كل ) كان المعنى عموم النفي لسائر الأفراد ؛ لأنّ النفي كيفية تعرض للجملة فالأصل فيه أن يبْقَى مدلول الجملة كما هو ، إلاّ أنه يتكيّف بالسلْب عوضاً عن تكيّفه بالإيجاب ، فإذا قلت كلُّ الديار مَا دخلتُه ، أو لم أدخل كلّ دار ، أو كلّ دار لم أدخل ، أفاد ذلك نفي دخولك أيةَ دار من الديار ، كما أنّ مفاده في حالة الإثبات ثبوت دخولك كلّ دار ، ولذلك كان الرفع والنصب للفظ كل سواء في المعنى في قول أبي النَّجم :
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي *** عَلَيّ ذنباً كُلُّه لم أصنع
كما قال سيبويه : إنّه لو نصب لكان أولى ؛ لأنّ النصب لا يفسد معنى ولا يخلّ بميزان . ولا تخرج ( كل ) عن إفادة العموم إلاّ إذا استعملها المتكلم في خبر يريد به إبطال خبر وقعت فيه ( كل ) صريحاً أو تقديراً ، كأنْ يقول أحد : كل الفقهاء يحرّم أكل لحوم السباع ، فتقول له : ما كل العلماء يحرّم لحوم السباع ، فأنت تريد إبطال الكلية فيبقى البعض ، وكذلك في ردّ الاعتقادات المخطئة كقول المثَل : « ما كل بيضاء شَحْمة » ، فإنّه لردّ اعتقاد ذلك كما قال زفر بن الحارث الكلابي :
* وكُنَّا حَسِبْنا كُلّ بَيْضَاء شحمةً *
وقد نَظر الشيخ عبد القادر الجرجاني إلى هذا الاستعمال الأخير فطرده في استعمال ( كل ) إذا وقعت في حَيّز النفي بعد أداة النفي وأطال في بيان ذلك في كتابه دلائل الإعجاز ، وزعم أنّ رجز أبي النجم يتغيّر معناه باختلاف رفع ( كل ) ونصبه في قوله « كلّه لم أصنع » . وقد تعقّبه العلامة التفتازاني تعقّباً مجملاً بأنّ ما قاله أغلبي ، وأنّه قد تخلّف في مواضع . وقفّيت أنا على أثر التفتازاني فبيّنت في تعليقي « الإيجاز على دلائل الإعجاز » أنّ الغالب هو العكس وحاصله ما ذكرت هنا .