70 - الذين كذَّبوا بالقرآن وبما أرسلنا به رسلنا - جميعاً - من الوحي ، فسوف يعلمون عاقبة تكذيبهم حين تكون الأغلال والسلاسل في أعناقهم ، يجرون بها في الماء الذي بلغ الغاية في الحرارة ، ثم بعد ذلك يلقون في النار يصطلون حرها ، ثم يقال لهم - توبيخاً وتبكيتاً - : أين معبوداتكم التي كنتم تعبدونها من دون الله ؟ قال الكافرون : غابوا عنا ، بل الحق أننا لم نكن نعبد من قبل في الدنيا شيئاً يعتد به . مثل هذا الإضلال الشنيع يُضل الله الكافرين عن سبيل الحق لعلمه أنهم يؤثرون الضلالة على الهدى .
وقوله تعالى : { إذ الأغلال } يعني يوم القيامة ، والعامل في الظرف { يعلمون } وعبر عن ظرف الاستقبال بظرف لا يقال إلا في الماضي ، وذلك لما تيقن وقوع الأمر حسن تأكيده بالإخراج في صيغة المضي ، وهذا كثير في القرآن كما قال تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم }{[10024]} قال الحسن بن أبي الحسن : لم تجعل السلاسل في أعناق أهل النار ، لأنهم أعجزوا الرب ، لكن لترسبهم إذا أطفاهم اللهب{[10025]} .
وقرأ جمهور الناس : «والسلاسلُ » عطفاً على { الأغلال } . وقرأ ابن عباس وابن مسعود : «والسلاسلَ » بالنصب «يسحَبون » بفتح الحاء وإسناد الفعل إليهم وإيقاع الفعل على «السلاسل » . وقرأت فرقة «والسلاسلِ » بالخفض على تقدير إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل . فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ ، إذ ترتيبه فيه قلب ، وهو على حد قول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي . وفي مصحف أبي بن كعب : «وفي السلاسل يسحبون » . و : { يسحبون } معناه يجرون ، والسحب الجر . و { الحميم } : الذائب الشديد الحر من النار ، ومنه يقال للماء السخن : حميم .
والظرف الذي في قوله : { إذِ الأغلال في أعناقهم } متعلق ب { يعلمون } أي يعلمون في ذلك الزمن . وشأن ( إذْ ) أن تكون اسماً للزمن الماضي واستعملت هنا للزمن المستقبل بقرينة ( سوف ) فهو إما استعمالُ المجاز بعلاقة الإِطلاق ، وإما استعارة تبعية للزمن المستقبل المحقق الوقوع تشبيهاً بالزمن الماضي وقد تكرر ذلك . ومنه اقترانها ب ( يوم ) في نحو قوله : { يومئذ تحدث أخبارها } [ الزلزلة : 4 ] ، وقوله : { يومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللَّه } [ الروم : 4 ، 5 ] . وأول ما يعلمونه حين تكون الأغلال في أعناقهم أنهم يتحققون وقوع البعث .
والأغلال : جمع غُل ، بضم العين ، وهو حلقة من قدِّ أو حديد تحيط بالعنق تناط بها سلسلة من حديد ، أو سَير من قِدّ يُمسك بها المجرم والأسير .
والسلاسل : جمع سِلْسِلة بكسر السينين وهي مجموع حلق غليظة من حديد متصل بعضها ببعض .
ومن المسائل ما رأيته أن الشيخ ابن عرفة كان يوماً في درسه في التفسير سئل : هل تكون هذه الآية سنداً لما يفعله أمراء المغرب أصلحهم الله من وضع الجناة بالأغلال والسلاسل جرياً على حكم القياس على فعل الله في العقوبات كما استنبطوا بعض صور عقاب من عمل قوم لوط من الرجم بالحجارة ، أو الإِلقاء من شاهق . فأجاب بالمنع لأن وضع الغل في العنق ضرب من التمثيل وإنما يوثق الجاني من يده ، قال : لأنهم إنما قاسوا على فعل الله في الدنيا ولا يقاس على تصرفه في الآخرة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإِحراق بالنار ، وقوله : « إنما يعذب بها رب العزة »
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن الوعيد، فقال: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون} على الوجوه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 70]
يقول تعالى ذكره: ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذّبوا بكتاب الله، وهو هذا القرآن... "وبِمَا أرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا "يقول: وكذّبوا أيضا مع تكذيبهم بكتاب الله بما أرسلنا به رسلنا من إخلاص العبادة لله، والبراءة مما يعبد دونه من الآلهة والأنداد، والإقرار بالبعث بعد الممات للثواب والعقاب.
وقوله: "فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إذِ الأغْلالِ في أعْناقِهِمْ والسّلاسِلُ"، وهذا تهديد من الله المشركين به يقول جلّ ثناؤه: فسوف يعلم هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله، المكذّبون بالكتاب حقيقة ما تخبرهم به يا محمد، وصحة ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم في جهنم...
وقوله: "يُسْحَبُونَ" يقول: يسحب هؤلاء الذين كذّبوا في الدنيا بالكتاب زبانيةُ العذاب يوم القيامة "في الحميم"، وهو ما قد انتهى حرّه، وبلغ غايته.
وقوله: "ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ" يقول: ثم في نار جهنم يحرقون، يقول: تسجر بها جهنم: أي توقد بهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانوا في الدنيا قد جمعت أيديهم إلى أذقانهم بجوامع السطوة، ثم وصلت بسلاسل القهر يساقون بها عن مقام الظفر بالنجاح إلى أهويات الكفر بالجدال بالباطل ومهامه الضلال المبين كما قال تعالى: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} [يس: 8] الآية، فجعل باطن تلك السلاسل الدنيوية والأغلال ظاهراً في ذلك المجمع قال: {إذ} أي حين تكون.
{الأغلال} جمع غل، قال في ديوان الأدب، هو الذي يعذب به الإنسان، وأصله الإدخال، يدخل فيه العنق واليد فتجمعان به.
{في أعناقهم} أي جامعة لأيديهم إلى تراقيهم، وعبر بإذ ومعناها المضي مع سوف ومعناها الاستقبال، لأن التعبير بالمضي إنما هو إشارة إلى تحقق الأمر مع كونه مستقبلاً.
{والسلاسل} أي في أعناقهم أيضاً يقيدهم ذلك عن كل تصرف لكونهم لم يتقيدوا بكتاب ولا رسول، والسلسلة من: تسلسل الشيء: اضطرب، قال الراغب: كأنه تصور منه تسلسل متردد، فردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه، وما سلسل متردد في مقره حتى صفا، حال كونهم {يسحبون *} أي بها، والسحب: الجر بعنف
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها الإهانة والتحقير في العذاب. لا مجرد العذاب. (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون)
بهذه المهانة كما تسحب الأنعام والوحوش! وعلام التكريم؟ وقد خلعوا عن أنفسهم شارة التكريم؟!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والظرف الذي في قوله: {إذِ الأغلال في أعناقهم} متعلق ب {يعلمون} أي يعلمون في ذلك الزمن. وشأن (إذْ) أن تكون اسماً للزمن الماضي واستعملت هنا للزمن المستقبل بقرينة (سوف) فهو إما استعمالُ المجاز بعلاقة الإِطلاق، وإما استعارة تبعية للزمن المستقبل المحقق الوقوع تشبيهاً بالزمن الماضي وقد تكرر ذلك. وأول ما يعلمونه حين تكون الأغلال في أعناقهم أنهم يتحققون وقوع البعث.
والأغلال: جمع غُل، بضم العين، وهو حلقة من قدِّ أو حديد تحيط بالعنق تناط بها سلسلة من حديد، أو سَير من قِدّ يُمسك بها المجرم والأسير.
والسلاسل: جمع سِلْسِلة بكسر السينين وهي مجموع حلق غليظة من حديد متصل بعضها ببعض.