وأما من أنصف ، وكان مقصوده الحق المبين ، فإنه لا يكذب بيوم الدين ، لأن الله قد أقام عليه من الأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة ، ما يجعله حق اليقين ، وصار لقلوبهم مثل الشمس للأبصار{[1382]} ، بخلاف من ران على قلبه كسبه ، وغطته معاصيه ، فإنه محجوب عن الحق .
ويعقب على هذا التطاول والتكذيب بالزجر والردع : ( كلا ! )ليس كما يقولون . .
ثم يكشف عن علة هذا التطاول وهذا التكذيب ؛ وهذه الغفلة عن الحق الواضح وهذا الانطماس في قلوب المكذبين :
( بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) . .
أي غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية . والقلب الذي يمرد على المعصية ينطمس ويظلم ؛ ويرين عليه غطاء كثيف يحجب النور عنه ويحجبه عن النور ، ويفقده الحساسية شيئا فشيئا حتى يتبلد ويموت . .
روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق ، عن محمد بن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه . فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت " . . وقال الترمذي حسن صحيح . ولفظ النسائي : " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء . فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ، فهو الران الذي قال الله تعالى : ( كلا ! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) . . "
وقال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت . .
ذلك حال الفجار المكذبين . وهذه هي علة الفجور والتكذيب . . ثم يذكر شيئا عن مصيرهم في ذلك اليوم العظيم . يناسب علة الفجور والتكذيب :
كلا ردع عن هذا القول بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون رد لما قالوه وبيان لما أدى بهم إلى هذا القول بأن غلب عليهم حب المعاصي بالانهماك فيها حتى صار ذلك صدأ على قلوبهم فعمي عليهم معرفة الحق والباطل فإن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات كما قال صلى الله عليه وسلم إن العبد كلما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه والرين الصدأ وقرأ حفص بل ران بإظهار اللام .
وقوله تعالى : { كلا } زجر ورد لقولهم : { أساطير الأولين } ، ثم أوجب أن ما كسبوا من الكفر والطغيان ، والعتو ، قد { ران على قلوبهم } ، أي غطى عليها وغلب فهم مع ذلك لا يبصرون رشداً ولا يخلص إلى قلوبهم خير ، ويقال : رانت الخمر على عقل شاربها وران الغش على قلب المريض ، وكذلك الموت ، ومنه قول الشاعر : [ الخفيف ]
ثم لما رآه رانت به الخمر وإن لا يرينه باتقاء{[11683]}*** والبيت لأبي زيد ، وقال الحسن وقتادة : الرين الذنب على الذنب حتى يموت القلب ، ويروى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الرجل إذا أذنب صارت نقطة سوداء على قلبه ثم كذلك حتى يتغطى » فذلك الرين الذي قال الله تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }{[11684]} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : { بل ران } بإدغام في الراء ، وقرأ نافع : { بل ران } غير مدغمة ، وقرأ عاصم : { بل } ويقف ثم بيتدئ { ران } ، وقرأ حمزة والكسائي : الإدغام وبالإمالة في { ران } ، وقرأ نافع أيضاً : بالإدغام ، والإمالة ، قال أبو حاتم : القراءة بالفتح والإدغام ، وعلق اللوم بهم فيما كسبوه وإن كان ذلك يخلق منه واختراع لأن الثواب والعقاب متعلق بكسب العبد
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"كَلاّ بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِمْ "يقول تعالى ذكره مكذّبا لهم في قيلهم ذلك: كلا، ما ذلك كذلك، ولكنه ران على قلوبهم يقول: غلب على قلوبهم وغَمَرها، وأحاطت بها الذنوب فغطتها يقال منه: رانت الخمر على عقله، فهي تَرِين عليه رَيْنا، وذلك إذا سكر، فغلبت على عقله...
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو خالد، عن ابن عجلان، عن القَعْقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا أذْنَبَ العَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فإنْ تابَ صُقِلَ مِنْها، فإنْ عادَ عادَتْ حتى تَعْظُمْ فِي قَلْبِهِ، فَذلكَ الرّانُ الّذي قالَ اللّهُ كَلاّ بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ»...
عن الحسن، في قوله: "كَلاّ بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ" قال: الذنب على الذنب حتى يعمَى القلب فيموت...
عن ابن عباس، قوله "كَلاّ بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ" قال: طبع على قلوبهم ما كسبوا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: الرين: الستر والغطاء، وقيل: الرين: الصدأ. فالله تعالى سمى الإيمان الذي، هو في النهاية من الخيرات، نورا، وسمى الكفر الذي، هو في النهاية من الشرور، ظلمة. فإذا كان الإيمان منورا للقلب، والكفر مظلما، فإذا اشتغل بالأسباب الداعية إلى الكفر شيئا بعد شيء من الآثام، فكل سبب من ذلك يعمل في إظلام القلب حتى تتم الظلمة... فذلك الرين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَلاَّ} ردع للمعتدي الأثيم عن قوله: {رَانَ على قُلُوبِهِمْ} ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها: وهو أن يصر على الكبائر ويسوّف التوبة حتى يطبع على قلبه، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{كلا} زجر ورد لقولهم: {أساطير الأولين}، ثم أوجب أن ما كسبوا من الكفر والطغيان، والعتو، قد {ران على قلوبهم}، أي غطى عليها وغلب فهم مع ذلك لا يبصرون رشداً ولا يخلص إلى قلوبهم خير...
ليس المراد من الرين أن قلبهم قد تغير وحصل فيه منع، بل المراد أنهم صاروا لإيقاع الذنب حالا بعد حال متجرئين عليه وقويت دواعيهم إلى ترك التوبة وترك الإقلاع، فاستمروا وصعب الأمر عليهم، ولذلك بين أن علة الرين كسبهم، ومعلوم أن إكثارهم من اكتساب الذنوب لا يمنع من الإقلاع والتوبة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{كلا} أي ليرتدع ارتداعاً عظيماً ولينزجر انزجاراً شديداً، فليس الأمر كما قال في المتلو ولا هو- معتقد له اعتقاداً جازماً، لأنه لم يقله عن بصيرة {بل ران} أي غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم للسماء والصدأ للمرآة، وجمع اعتباراً بمعنى "كل " لئلا يتعنت متعنت، فقال معبراً بجمع الكثرة إشارة إلى كثرتهم: {على قلوبهم} أي كل من قال هذا القول {ما كانوا} أي بجبلاتهم الفاسدة {يكسبون} أي يجددون كسبه مستمرين عليه من الأعمال الردية، فإن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، فيتراكم الذنب على القلب فيسود...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويعقب على هذا التطاول والتكذيب بالزجر والردع: (كلا!) ليس كما يقولون..
ثم يكشف عن علة هذا التطاول وهذا التكذيب؛ وهذه الغفلة عن الحق الواضح وهذا الانطماس في قلوب المكذبين:
(بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)..
أي غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية. والقلب الذي يمرد على المعصية ينطمس ويظلم؛ ويرين عليه غطاء كثيف يحجب النور عنه ويحجبه عن النور، ويفقده الحساسية شيئا فشيئا حتى يتبلد ويموت..
روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: "إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه. فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت".. وقال الترمذي حسن صحيح. ولفظ النسائي: " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء. فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي قال الله تعالى: (كلا! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).. "
وقال الحسن البصري: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت..
ذلك حال الفجار المكذبين. وهذه هي علة الفجور والتكذيب.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويعري القرآن مرّة أخرى جذر طغيانهم وعنادهم، بالقول: (كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). ما أشد تقريع العبارة! فقد احتوى صدأ أعمالهم كلّ قلوبهم، فأُزيل عنها ما جعل اللّه فيها من نور الفطرة الأولى وذهب صفائها، ولذا.. فلا يمكن لشمس الحقيقة أن تشرق بعد في أفق قلوبهم، ولا يمكن لتلك القلوب التعسة من أن تتقبل نفوذ أنوار الوحي الإلهي إلى دواخلها. «ران»: من (الرين) على وزن (عين)، وهو: الصدأ يعلو الشيء الجليل (كما يقول الراغب في مفرداته)، ويقول عنه بعض أهل اللغة: إنّه قشرة حمراء تتكون على سطح الحديد عند ملامسته لرطوبة الهواء، وهي علامة لتلفه، وضياع بريقه وحسن ظاهره...