{ وَإِذَا تَوَلَّى } هذا الذي يعجبك قوله إذا حضر عندك { سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا } أي : يجتهد على أعمال المعاصي ، التي هي إفساد في الأرض { وَيُهْلِكَ } بسبب ذلك { الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } فالزروع والثمار والمواشي ، تتلف وتنقص ، وتقل بركتها ، بسبب العمل في المعاصي ، { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وإذا كان لا يحب الفساد ، فهو يبغض العبد المفسد في الأرض ، غاية البغض ، وإن قال بلسانه قولا حسنا .
ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص ، ليست دليلا على صدق ولا كذب ، ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها ، المزكي لها وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود ، والمحق والمبطل من الناس ، بسبر أعمالهم ، والنظر لقرائن أحوالهم ، وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم .
حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء ، وانكشف المستور ، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد :
( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ، ويهلك الحرث والنسل ، والله لا يحب الفساد )
وإذا انصرف إلى العمل ، كانت وجهته الشر والفساد ، في قسوة وجفوة ولدد ، تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والأثمار ، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال . . وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد . . مما كان يستره بذلاقة اللسان ، ونعومة الدهان ، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح . . ( والله لا يحب الفساد ) ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد . . والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس ؛ ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا ، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر .
{ وإذا تولى } أدبر وانصرف عنك . وقيل : إذا غلب وصار واليا . { سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل } كما فعله الأخنس بثقيف إذ بيتهم وأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم ، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف ، أو بالظلم حتى يمنع الله بشؤمه القطر فيهلك الحرث والنسل . { والله لا يحب الفساد } لا يرتضيه فاحذروا غضبه عليه .
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ( 205 ) و { تولى } و { سعى } تحتمل جميعاً معنيين : أحدهما أن تكون فعل( {[1922]} ) قلب فيجيء { تولى } بمعنى ضل وغضب وأنف في نفسه فسعى بحيلة وإرادته الدوائر على الإسلام ، ومن هذا السعي قول الله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } [ النجم : 39 ] ، ومنه { وسعى لها سعيها }( {[1923]} ) [ الإسراء : 19 ] ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
أسعى على حيِّ بني مالك . . . كل امرىء في شأنِهِ سَاعِ( {[1924]} )
ونحا هذا المنحى في معنى الآية ابن جريج وغيره ، والمعنى الثاني أن يكونا فعل شخص فيجيء { تولى } بمعنى أدبر ونهض عنك يا محمد ، و { سعى } يجيء معناها بقدميه فقطع الطريق وأفسدها ، نحا هذا المنحى ابن عباس وغيره ، وكلا السعيين فساد .
وقوله تعالى : { ويهلك الحرث والنسل } .
قال الطبري : «المراد الأخنس في إحراقه الزرع وقتله الحمر »( {[1925]} ) .
وقال مجاهد : «المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل »( {[1926]} ) ، وقيل : المراد أن المفسد يقتل الناس فينقطع عمار الزرع والمنسلون .
وقال الزجّاج : يحتمل أن يراد بالحرث النساء وبالنسل نسلهن .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن الآية عبارة عن مبالغة( {[1927]} ) في الإفساد ، إذ كل فساد في أمور الدنيا ، فعلى هذين الفصلين يدور ، وأكثر القراء على { يُهلكَ } بضم الياء وكسر اللام وفتح الكاف عطفاً على { ليفسد } ، وفي مصحف أبي بن كعب " وليهلكَ " ، وقرأ قوم " ويهلكُ " بضم الكاف ، إما عطفاً على { يعجبك } وإما على { سعى } ، لأنها بمعنى الاستقبال ، وإما على القطع والاستئناف ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن محيصن " وَيهلِكُ " بفتح الياء وكسر اللام وضم الكاف ورفع " الحرثُ " و " النسَلُ " ، وكذلك رواه ابن سلمة عن ابن كثير وعبد الوارث عن أبي عمرو ، وحكى المهدوي أن الذي روى حماد بن سلمة عن ابن كثير إنما هو " ويُهلكُ " بضم الياء والكاف " الحرث " بالنصب ، وقرأ قوم " وَيهلكَ " بفتح الياء واللام ورفع " الحرثُ " وهي لغة هلِكَ يهلَكُ ، تلحق بالشواذ كركن يركن( {[1928]} ) ، و { الحرث } في اللغة شقَ الأرض للزراعة ، ويسمى الزرع حرثاً للمجاورة والتناسب ، ويدخل سائر الشجر والغراسات في ذلك حملاً على الزرع ، ومنه قول عز وجل { إذ يحكمان في الحرث }( {[1929]} ) [ الأنبياء : 78 ] ، وهو كرم على ما ورد في التفسير ، وسمي النساء حرثاً على التشبيه ، و { النسل } مأخوذ من نسل ينسل إذا خرج متتابعاً ومنه نسال الطائر ما تتابع سقوطه من ريشه ، ومنه قوله تعالى : { وهم من كل حدب ينسلون }( {[1930]} ) [ الأنبياء : 96 ] ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ( {[1931]} ) . . . و { لا يحب } معناه لا يحبه من أهل الصلاح ، أي لا يحبه ديناً ، وإلا فلا يقع إلا ما يحب الله تعالى وقوعه ، والفساد واقع ، وهذا على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة( {[1932]} ) .
قال القاضي أبو محمد : والحب له على الإرادة مزية إيثار ، فلو قال أحد : إن الفساد المراد تنقصه مزية الإيثار لصح ذلك ، إذ الحب من الله تعالى إنما هو لما حسن من جميع جهاته .