ومن رحمته الدالة على أنه وحده المعبود دون ما سواه أنهم إذا مسهم الضر في البحر فخافوا من الهلاك لتراكم الأمواج ضل عنهم ما كانوا يدعون من دون الله في حال الرخاء من الأحياء والأموات ، فكأنهم لم يكونوا يدعونهم في وقت من الأوقات لعلمهم أنهم ضعفاء عاجزون عن كشف الضر وصرخوا بدعوة فاطر الأرض والسماوات الذي تستغيث به في شدائدها جميع المخلوقات وأخلصوا له الدعاء والتضرع في هذه الحال .
فلما كشف الله عنهم الضر ونجاهم إلى البر ونسوا ما كانوا يدعون إليه من قبل وأشركوا به من لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع وأعرضوا عن الإخلاص لربهم ومليكهم ، وهذا من جهل الإنسان وكفره فإن الإنسان كفور للنعم ، إلا من هدى الله فمن عليه بالعقل السليم واهتدى إلى الصراط المستقيم ، فإنه يعلم أن الذي يكشف الشدائد وينجي من الأهوال هو الذي يستحق أن يفرد وتخلص له سائر الأعمال في الشدة والرخاء واليسر والعسر .
وأما من خذل ووكل إلى عقله الضعيف فإنه لم يلحظ وقت الشدة إلا مصلحته الحاضرة وإنجاءه في تلك الحال .
فلما حصلت له النجاة وزالت عنه المشقة ظن بجهله أنه قد أعجز الله ولم يخطر بقلبه شيء من العواقب الدنيوية فضلا عن أمور الآخرة .
ثم ينتقل بهم من الإزجاء الرخي للاضطراب العتي . حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة وكل سند وكل مجير إلا الله ، فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر لا يدعون أحدا سواه : ( ضل من تدعون إلا إياه ) . .
ولكن الإنسان هو الإنسان ، فما إن تنجلي الغمرة ، وتحس قدماه ثبات الأرض من تحته حتى ينسى لحظة الشدة ، فينسى الله ، وتتقاذفه الأهواء وتجرفه الشهوات ، وتغطي على فطرته التي جلاها الخطر : ( فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ) إلا من اتصل قلبه بالله فأشرق واستنار .
يخبر تعالى أنه إذا مس الناس ضرّ ، دعوه منيبين إليه ، مخلصين له الدين ؛ ولهذا قال : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } أي : ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله ، كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة ، فذهب هاربًا ، فركب في البحر ليدخل الحبشة ، فجاءتهم{[17661]} ريح عاصف ، فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعو الله وحده . فقال عكرمة في نفسه : والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره ، فإنه لا ينفع في البر غيره ، اللهم لك عليّ عهد ، لئن أخرجتني منه لأذهبن فَأضعن{[17662]} يدي في يديه{[17663]} ، فلأجدنه رءوفًا رحيمًا . فخرجوا من البحر ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن{[17664]} إسلامه ، رضي الله عنه وأرضاه .
وقوله : { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } أي : نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر ، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له .
{ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا } أي : سَجِيَّتُه هذا ، ينسى النعم ويجحدها ، إلا من عصم الله .
بعد أن ألزمهم الحجة على حق إلهية الله تعالى بما هو من خصائص صنعه باعترافهم ، أعقبه بدليل آخر من أحوالهم المتضمنة إقرارهم بانفراده بالتصرف ثم بالتعجيب من مناقضة أنفسهم عند زوال اضطرارهم .
فجملة { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } خبر مستعمل في التقرير وإلزام الحجة إذ لا يخبر أحد عن فعله إخباراً حقيقياً .
وجملة { فلما نجاكم إلى البر أعرضتم } خبر مستعمل في التعجيب والتوبيخ .
وضر البحر : هو الإشراف على الغرق ؛ لأنه يزعج النفوس خوفاً ، فهو ضر لها . و { ضل } بضاد ساقطة فعل من الضلال ، وهو سلوك طريق غير موصلة للمقصود خطأ .
والعدول إلى الموصولية لِما تؤذن به الصلة من عمل اللسان ليتأتى الإيجاز ، أي من يتكرر دعاؤكم إياهم ، كما يدل عليه المضارع . فالمعنى غاب وانصرف ذكر الذين عادتكم دعاؤهم عن ألسنتكم فلا تدعونهم ، وذلك بقرينة ذكر الدعاء هنا الذي متعلقه اللسان ، فتعين أن ضلالهم هو ضلال ذكر أسمائهم ، وهذا إيجاز بديع .
والاستثناء من عموم الموصول ، لأن اسم الله مما يجري على ألسنتهم في الدعاء تارة كما تجري أسماء الأصنام ، فالاستثناء متصل .
ويجوز أن يكون اسم الموصول في قوله : { من تدعون } خاصاً بأصنامهم لأنهم يكثر دعاؤهم إياها دون اسم الله تعالى ، كما هو مقتضى التجدد فإذا اشتد بهم الضر دعوا الله كما قال تعالى : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } [ العنكبوت : 65 ] . ويكون الاستثناء منقطعاً . ونصب المستثنى لا يختلف في الوجهين جرياً على اللغة الفصحى . ولعل هذا الوجه أرجح لأنه أنسب بقوله : { أعرضتم } .
والإعراض : الترك ، أي تركتم دعاء الله ، بقرينة الجمع بين مقتضى المضارع من إفادة التجدد وبين مقتضى الاستثناء من انحصار الدعاء في الكون باسمه تعالى .
وقوله : { إلى البر } عدي بحرف ( إلى ) لتضمين { نجاكم } معنى أبلغكم وأوصلكم .
وجملة { وكان الإنسان كفوراً } اعتراض وتذييل لزيادة التعجب منهم ومن أمثالهم . و « الكفور » صيغة مبالغة ، أي كثير الكفر . والكفر ضد الشكر .
والتعريف في { الإنسان } تعريف الجنس وهو مفيد للاستغراق . فهذا الاستغراق يجوز أن يكون استغراقاً عرفياً بحمله على غالب نوع الإنسان ، وهم أهل الإشراك وهم أكثر الناس يومئذٍ ، فتكون صيغة المبالغة من قوله : { كفوراً } راجعة إلى قوة صفة الكفران أو عدم الشكر فإن أعلاه إشراك غير المنعم مع المنعم في نعمة لا حظ له فيها .
ويجوز أن يكون الاستغراق حقيقياً ، أي كان نوع الإنسان كفوراً ، أي غير خاللٍ من الكفران ، فتكون صيغة المبالغة راجعة إلى كثرة أحوال الكفران مع تفاوتها . وكثرة كفران الإنسان هي تكرر إعراضه عن الشكر في موضع الشكر ضلالاً أو سهواً أو غفلة لإسناده النعم إلى أسبابها المقارنة دون منعمها ولفرضه منعمين وهميين لا حظ لهم في الإنعام .
وذكر فعل ( كان ) إشارة إلى أن الكفران مستقر في جبلة هذا الإنسان ، لأن الإنسان قلما يشعر بما وراء عالم الحس فإن الحواس تشغله بمدركاتها عن التفكر فيما عدا ذلك من المعاني المستقرة في الحافظة والمستنبطة بالفكر .
ولما كان الشكر على النعمة متوقفاً على تذكر النعمة كانت شواغله عن تذكر النعم الماضية مغطية عليها ، ولأن مدركات الحواس منها الملائم للنفس وهو الغالب ، ومنها المنافر لها . فالإنسان إذا أدرك الملائم لم يشعر بقدره عنده لكثرة تكرره حتى صار عادة فذهل عما فيه من نفع ، فإذا أدرك المنافر استذكر فقدان الملائم فضج وضجر . وهو معنى قوله تعالى : { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } [ فصلت : 51 ] . ولهذا قال الحكماء : العافية تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى فهذا الاعتبار هو الذي أشارت له هذه الآية مع التي بعدها وهي { أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر } [ الإسراء : 68 ] الآية . ومن أجل ذلك كان من آداب النفس في الشريعة تذكيرها بنعم الله ، قال تعالى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] ليقوم ذكر النعمة مقام معاهدتها .