38- وكذلك أهلكنا عادا وثمود وأصحاب الرَّسَ{[156]} لما كذبوا رسلهم ، وأهلكنا أمماً كثيرة كانوا بين أمة نوح وبين عاد فأصابهم جزاء الظالمين .
وقوله : { وَعَادًا وَثَمُودَ } قد{[21523]} تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة ، منها في سورة " الأعراف " بما أغنى عن الإعادة{[21524]} .
وأما أصحاب الرس فقال ابن جُرَيْج ، عن{[21525]} ابن عباس : هم أهل قرية من قرى ثمود .
وقال ابن جريج : قال عكرمة : أصحاب الرَسّ بفَلَج وهم أصحاب يس . وقال قتادة : فَلَج من قرى اليمامة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم [ النبيل ]{[21526]} ، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد أبو عاصم ، حدثنا شبيب بن بشر{[21527]} ، حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله : { وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } قال : بئر بأذربيجان .
وقال سفيان الثوري عن أبي بُكَيْر{[21528]} ، عن عكرمة : الرس بئر رَسوا فيها نبيهم . أي : دفنوه بها{[21529]} .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن كعب [ القرظي ]{[21530]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود ، وذلك أن الله - تعالى وتبارك - بعث نبيا{[21531]} إلى أهل قرية ، فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الأسود ، ثم إن أهل القرية عدَوا على النبي ، فحفروا له بئرا فألقوه فيها ، ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم{[21532]} قال : " فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ، ويشتري به طعاما وشرابا ، ثم يأتي به إلى تلك البئر ، فيرفع تلك الصخرة ، ويعينه الله عليها ، فيدلي إليه طعامه وشرابه ، ثم يردها كما كانت " . قال : " فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ، ثم إنه ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع ، فجمع حطبه وحَزم وفرغ منها فلما أراد أن يحتملها وجد سنة ، فاضطجع فنام ، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً ، ثم إنه هَبّ فتمطى ، فتحول لشقه الآخر فاضطجع ، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى ، ثم إنه هب واحتمل حُزْمَته ولا يحسبُ إلا أنه نام ساعة من نهار{[21533]} فجاء إلى القرية فباع حزمته ، ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع . ثم ذهب{[21534]} إلى الحفيرة في موضعها الذي كانت فيه ، فالتمسه فلم يجده . وكان قد بدا لقومه فيه بَداء ، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه " . قال :
فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود : ما فعل ؟ فيقولون له : لا ندري . حتى قبض الله النبي ، وَأهبّ الأسودَ من نومته بعد ذلك " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن ذلك الأسودَ لأولُ من يدخل الجنة " .
وهكذا رواه ابن جرير{[21535]} عن ابن حميد ، عن سلمة عن ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب مرسلا . وفيه غرابة ونَكارَةٌ ، ولعل فيه إدْرَاجاً ، والله أعلم . وأما ابن جرير فقال : لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس الذين ذكروا في القرآن ؛ لأن الله أخبر عنهم أنه أهلكهم ، وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم ، اللهم إلا أن يكون حدث لهم أحداث ، آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم ، والله أعلم .
واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود ، الذين ذكروا في سورة البروج ، فالله أعلم .
وقوله : { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } أي : وأمما بين أضعاف مَنْ ذُكر أهلكناهم كثيرة ؛ ولهذا قال : { وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ }
وعاد وثمود يصرف ، وجاء ها هنا مصروفاً ، وقرأ ابن مسعود وعمرو بن ميمون والحسن وعيسى «وعاداً » مصروفاً «وثمود » غير مصروف ، واختلف الناس في { أصحاب الرس } فقال ابن عباس هم قوم ثمود ، وقال قتادة هم أهل قرية من اليمامة ، يقال لها { الرس } والفلج ، وقال مجاهد هم أهل قرية فيها بير عظيمة الخ . . . يقال لها { الرس } ، وقال كعب ومقاتل والسدي { الرس } بير بأنطاكية الشام قتل فيها صاحب ياسين{[8828]} ، وقال الكلبي { أصحاب الرس } قوم بعث إليهم نبي فأكلوه ، وقال قتادة { أصحاب الرس } وأصحاب ليكة قومان أرسل إليهما شعيب عليه السلام ، وقاله وهب بن منبه وقال علي رضي الله عنه في كتاب الثعلبي { أصحاب الرس } قوم عبدوا شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت ، رسوا نبيهم في بير حفروه له في حديث طويل ، و { الرس } في اللغة كل محفور من بير أو قبر أو معدن ومنه قول الشاعر [ النابغة الجعدي ] : [ المتقارب ]
سبقت إلى فرط بأهل . . . تنابلة يحفرون الرساسا{[8829]}
وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الرس المشار إليهم في هذه الآية قوم أخذوا نبيهم فرسوه في بير وأطبقوا عليه صخرة ، قال فكان عبد أسود قد آمن به يجيء بطعام إلى تلك البير فيعينه الله على تلك الصخرة إلى أن ضرب الله يوماً على أذن ذلك الأسود بالنوم أربع عشرة سنة وأخرج أهل القرية نبيهم فآمنوا به في حديث طويل{[8830]} ، قال الطبري فيمكن أنهم كفروا به بعد ذلك فذكرهم الله في هذه الآية ، وقوله { وقروناً بين ذلك كثيراً } إبهام لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل وقد تقدّم شرح القرن وكم هو ، ومن هذا اللفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى ، ويروى أن ابن عباس قاله ، «كذب النسابون من فوق عدنان{[8831]} لأن الله تعالى أخبر عن كثير من الخلق والأمم ولم يحد » .
انتصبت الأسماء الأربعة بفعل محذوف دل عليه { تبرنا } . وفي تقديمها تشويق إلى معرفة ما سيخبر به عنها . ويجوز أن تكون هذه الأسماء منصوبة بالعطف على ضمير النصب من قوله : { فدمرناهم تدميراً } [ الفرقان : 36 ] .
وتنوين { عاداً وثموداً } مع أن المراد الامتان . فأما تنوين { عاداً } فهو وجه وجيه لأنه اسم عري عن علامة التأنيث وغيرُ زائد على ثلاثة أحرف فحقه الصرف . وأما صَرْف { ثموداً } في قراءة الجمهور فعلى اعتبار اسم الأب ، والأظهر عندي أن تنوينه للمزاوجة مع { عَاداً } كما قال تعالى : { سَلاَسِلاً وأَغْلاَلاً وسعيراً } [ الإنسان : 4 ] .
وقرأه حمزة وحفص ويعقوب بغير تنوين على ما يقتضيه ظاهر اسم الأمة من التأنيث المعنوي . وتقدم ذكر عاد في سورة الأعراف .
وأما { أصحاب الرسّ } فقد اختلف المفسرون في تعيينهم واتفقوا على أن الرسّ بئر عظيمة أو حفير كبير . ولما كان اسماً لنوع من أماكن الأرض أطلقه العرب على أماكن كثيرة في بلاد العرب .
بكَرْنَ بُكُوراً واستحرْنَ بسَحرة *** فهنّ ووادِي الرسّ كاليد للفم
وسمّوا بالرّسّ ما عرفوه من بلاد فارس ، وإضافة { أصحاب } إلى { الرس } إما لأنهم أصابهم الخسف في رسّ ، وإما لأنهم نازلون على رسّ ، وإما لأنهم احتفروا رسّاً ، كما سمي أصحاب الأخدود الذين خدّوه وأضرموه . والأكثر على أنه من بلاد اليمامة ويسمى « فَلَجا »{[293]} .
واختلف في المعنيّ من { أصحاب الرس } في هذه الآية فقيل هم قوم من بقايا ثمود . وقال السهيلي : هم قوم كانوا في عَدن أُرسل إليهم حنظلة بن صفوان رسولاً . وكانت العنقاء وهي طائر أعظم ما يكون من الطير ( سميت العنقاء لطول عنقها ) وكانت تسكن في جبل يقال له « فتح »{[294]} ، وكانت تنقضّ على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأهلكها الله بالصواعق . وقد عبدوا الأصنام وقتلوا نبيئهم فأهلكهم الله . قال وهب بن منبه : خسف بهم وبديارهم . وقيل : هم قوم شعيب . وقيل : قوم كانوا مع قوم شعيب ، وقال مقاتل والسدّي : الرسّ بئر بأنطاكية ، وأصحاب الرسّ أهل أنطاكية بُعث إليهم حبيب النجّار فقتلوه ورسُّوه في بئر وهو المذكور في سورة يس ( 20 ) { وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين } الآيات . وقيل : الرس وادٍ في أذربيجان في أرَّان يخرج من قاليقَلا ويصب في بحيرة جُرجان ولا أحسب أنه المراد في هذه الآية . ولعله من تشابه الأسماء يقال : كانت عليه ألف مدينة هلكت بالخسف ، وقيل غير ذلك مما هو أبعد .
والقرون : الأمم فإن القرن يطلق على الأمة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } في أول الأنعام ( 6 ) . وفي الحديث : خير القرون قرني ثم الذين يلونهم الحديث .
والإشارة في قوله : { بين ذلك } إلى المذكور من الأمم .
ومعنى { بين ذلك } أن أُمَماً تخللت تلك الأقوام ابتداءً من قوم نوح .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{و} أهلكنا {وعادا وثمودا وأصحاب الرس} يعني: البئر التي قتل فيها صاحب ياسين... {وقرونا} يعني: وأهلكنا أمما {بين ذلك} ما بين عاد إلى أصحاب الرس {كثيرا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ودمرنا أيضا عادا وثمود وأصحاب الرسّ.
واختلف أهل التأويل في أصحاب الرسّ؛ فقال بعضهم: أصحاب الرسّ من ثمود...
وقال آخرون: بل هي قرية من اليمامة يقال لها الفلْج...
وقال آخرون: هم قوم رسّوا نبيهم في بئر...
وقال آخرون: هي بئر كانت تسمى الرسّ... والصواب من القول في ذلك، قول من قال: هم قوم كانوا على بئر، وذلك أن الرّسّ في كلام العرب كلّ محفور مثل البئر والقبر ونحو ذلك... ولا أعلم قوما كانت لهم قصة بسبب حفرة، ذكرهم الله في كتابه إلا أصحاب الأخدود، فإن يكونوا هم المعنيين بقوله وأصحَابَ الرّسّ، فإنا سنذكر خبرهم إن شاء الله إذا انتهينا إلى سورة البروج، وإن يكونوا غيرهم فلا نعرف لهم خبرا، إلا ما جاء من جملة الخبر عنهم أنهم قوم رَسّوا نبيهم في حفرة...
"وَقُرُونا بينَ ذلكَ كَثِيرا" يقول: ودمرنا بين أضعاف هذه الأمم التي سمّيناها لكم أمما كثيرة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر آخر الأمم المهلكة بعامة وأولها، وكان إهلاكهما بالماء، ذكر من بينهما ممن أهلك بغير ذلك، إظهاراً للقدرة والاختيار، وطوى خبرهم بغير العذاب لأنه كما مضى في سياق الإنذار فقال: {وعاداً} أي ودمرنا عاداً بالريح {وثموداْ} بالصيحة {وأصحاب الرس} أي البئر التي هي غير مطوية؛ قال ابن جرير: والرس في كلام العرب كل محفور مثل البئر والقبر ونحو ذلك. أي دمرناهم بالخسف
{وقروناً بين ذلك} أي الأمر العظيم المذكور، وهو بين كل أمتين من هذه الأمم {كثيراً} وناهيك بما يقول فيه العلي الكبير: إنه كثير...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهؤلاء عاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك كلهم لاقوا ذات المصير بعد أن ضربت لهم الأمثال، فلم يتدبروا القول، ولم يتقوا البوار والدمار.
ثم يضرب الحق –تبارك وتعالى- لرسوله مثلا آخر:
{وعادا و ثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا}:
إنها نماذج من المتاعب التي لاقاها الرسل من أممهم، كما قال في موضع آخر: {وإلى عاد أخاهم هودا...} (الأعراف 65). {وإلى ثمود أخاهم صالحا...} (الأعراف 73).
وكانت النهاية أن نصر الله أولياءه ورسله، و دحر خصومهم والمكذبين بهم، كل ذلك ليقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: يا محمد لست بدعا من الرسل، فإن وقف منك قومك موقف العناد والتكذيب، فكن على يقين وعلى ثقة من نصر الله لك كما قال:
{ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين171 إنهم لهم المنصورون172 وإن جندنا لهم الغالبون 173} (الصافات).
إنها قضية يطلقها الحق – تبارك وتعالى – لا للتأريخ فقط، ولكن لتربية النفس البشرية، فإن أردت الغلبة فكن في جند الله وتحت حزبه، ولن تهزم أبدا، إلا إذا اختلت فيك هذه الجندية، ولا تنس أن أول شيء في هذه الجندية الطاعة والانضباط، فإذا هزمت في معركة فعليك أن تنظر عن أي منهما تخليت.