ولما بين تعالى الحجج والبراهين على بطلان أقوال المكذبين ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يعبأ بهم شيئا ، وأن يصبر لحكم ربه القدري والشرعي بلزومه والاستقامة عليه ، ووعده الله بالكفاية بقوله : { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أي : بمرأى منا وحفظ ، واعتناء بأمرك ، وأمره أن يستعين على الصبر بالذكر والعبادة ، فقال : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } أي : من الليل .
ويفرغ بهذا التهديد الأخير من أمر المكذبين الظالمين ، الذين طاردهم هذه المطاردة الطويلة العنيفة ، لينتهي بهم إلى موقف المهدد الذي ينتظره العذاب من بعيد ومن قريب . . يفرغ منه ليلتفت إلى النبي الكريم الذي تطاول عليه المتطاولون ، وتقول عليه المتقولون ، يلتفت إليه [ صلى الله عليه وسلم ] يوجهه إلى الصبر على هذا العناء ، وهذا التكذيب ، وهذا التطاول ؛ والصبر على طريق الدعوة الشاق الطويل . تاركا الأمر لحكم الله يفعل به ما يشاء : ( واصبر لحكم ربك ) . .
ومع التوجيه إلى الصبر إيذان بالإعزاز الرباني ، والعناية الإلهية ، والأنس الحبيب الذي يمسح على مشقات الطريق مسحا ، ويجعل الصبر عليه أمرا محببا ، وهو الوسيلة إلى هذا الإعزاز الكريم :
( واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ) . .
ويا له من تعبير ! ويا له من تصوير ! ويا له من تقدير !
إنها مرتبة لم يبلغها قط إنسان . هذه المرتبة التي يصورها هذا التعبير الفريد في القرآن كله . حتى بين التعبيرات المشابهة .
لقد قيل لموسى عليه السلام : ( وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ) . . وقيل له : ( وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ) . . وقيل له : ( واصطنعتك لنفسي ) . .
وكلها تعبيرات تدل على مقامات رفيعة . ولكنه قيل لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] : ( فإنك بأعيننا )وهو تعبير فيه إعزاز خاص ، وأنس خاص . وهو يلقي ظلا فريدا أرق وأشف من كل ظل . . ولا يملك التعبير البشري أن يترجم هذا التعبير الخاص . فحسبنا أن نشير إلى ظلاله ، وأن نعيش في هذه الظلال .
ومع هذا الإيناس هداية إلى طريق الصلة الدائمة به : ( وسبح بحمد ربك حين تقوم . ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ) . . فعلى مدار اليوم . عند اليقظة من النوم . وفي ثنايا الليل . وعند إدبار النجوم في الفجر . هنالك مجال الاستمتاع بهذا الإيناس الحبيب . والتسبيح زاد وأنس ومناجاة للقلوب . فكيف بقلب المحب الحبيب القريب ? ? ?
وقوله : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أي : اصبر على أذاهم ولا تبالهم ، فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا ، والله يعصمك من الناس .
وقوله : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } قال الضحاك : أي إلى الصلاة : سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك .
وقد روي مثله عن الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهما .
وروى مسلم في صحيحه ، عن عمر أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة{[27530]} . ورواه أحمد وأهل السنن ، عن أبي سعيد وغيره ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك{[27531]} .
وقال أبو الجوزاء : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } أي : من نومك من فراشك . واختاره ابن جرير : ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد :
حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عُمَير{[27532]} بن هانئ ، حدثني جنادة بن أبي أمية ، حدثنا عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من تعار من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : رب اغفر لي - أو قال : ثم دعا - استجيب له ، فإن عزم فتوضأ ، ثم صلى تقبلت صلاته " .
وأخرجه البخاري في صحيحه ، وأهل السنن ، من حديث الوليد بن مسلم ، به {[27533]} .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } قال : من كل مجلس .
وقال الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } قال : إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال : سبحانك اللهم وبحمدك .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الدمشقي ، حدثنا محمد ابن شعيب ، أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي ، عن عطاء بن أبي رباح ؛ أنه حدثه عن قول الله : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } يقول : حين تقوم من كل مجلس ، إن كنت أحسنت ازددت خيرا ، وإن كان غير ذلك كان هذا كفارة له .
وقد قال عبد الرزاق في جامعه : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجَزَرِي ، عن أبي عثمان الفقير ؛ أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه أن يقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك . قال معمر : وسمعت غيره يقول : هذا القول كفارة المجالس{[27534]} وهذا مرسل ، وقد وردت أحاديث مسندة من طرق - يقوي بعضها بعضا - بذلك ، فمن ذلك حديث ابن جُرَيْج ، عن سُهَيْل بن{[27535]} أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
من جلس في مجلس فكثر{[27536]} فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر{[27537]} له ما كان في مجلسه ذلك " .
رواه الترمذي - وهذا لفظه - والنسائي في اليوم والليلة ، من حديث ابن جريج . وقال الترمذي : حسن صحيح . وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال : إسناد على شرط مسلم ، إلا أن البخاري علله {[27538]} .
قلت : علله الإمام أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو حاتم ، وأبو زُرَعة ، والدارقطني ، وغيرهم . ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جُرَيْج . على أن أبا داود قد رواه في سننه من طريق غير {[27539]} ابن جريج إلى أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه{[27540]} ورواه أبو داود - واللفظ له - والنسائي ، والحاكم في المستدرك ، من طريق الحجاج بن دينار ، عن هاشم{[27541]} عن أبي العالية ، عن أبي بَرْزَة الأسلمي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بآخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس : " سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك " . فقال رجل : يا رسول الله ، إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى ؟ ! قال : " كفارة لما يكون في المجلس " {[27542]} .
وقد روي مرسلا عن أبي العالية ، والله{[27543]} أعلم . وهكذا رواه النسائي والحاكم ، من حديث الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن رافع بن خَدِيج ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء{[27544]} وروي مرسلا أيضا ، والله أعلم . وكذا رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو ؛ أنه قال : " كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات ، إلا كفر بهن عنه ، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر ، إلا ختم له بهن كما يختم بالخاتم على الصحيفة : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك " {[27545]} وأخرجه الحاكم من حديث أم المؤمنين عائشة ، وصححه ، ومن رواية جُبَير بن مطعم{[27546]} ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد أفردت لذلك جزءا على حدة بذكر طرقه وألفاظه وعلله ، وما يتعلق به ، ولله الحمد والمنة{[27547]}