{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا }
هذه الآية ، التي تسمى آية الحجاب ، فأمر اللّه نبيه ، أن يأمر النساء عمومًا ، ويبدأ بزوجاته وبناته ، لأنهن آكد من غيرهن ، ولأن الآمر [ لغيره ]{[1]} ينبغي أن يبدأ بأهله ، قبل غيرهم كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا }
أن { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } وهن اللاتي يكن فوق الثياب من ملحفة وخمار ورداء ونحوه ، أي : يغطين بها ، وجوههن وصدورهن .
ثم ذكر حكمة ذلك ، فقال : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } دل على وجود أذية ، إن لم يحتجبن ، وذلك ، لأنهن إذا لم يحتجبن ، ربما ظن أنهن غير عفيفات ، فيتعرض لهن من في قلبه مرض ، فيؤذيهن ، وربما استهين بهن ، وظن أنهن إماء ، فتهاون بهن من يريد الشر . فالاحتجاب حاسم لمطامع الطامعين فيهن .
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } حيث غفر لكم ما سلف ، ورحمكم ، بأن بين لكم الأحكام ، وأوضح الحلال والحرام ، فهذا سد للباب من جهتهن .
ثم أمر الله نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين عامة - إذا خرجن لحاجتهن أن يغطين أجسامهن ورؤوسهن وجيوبهن - وهي فتحة الصدر من الثوب - بجلباب كاس . فيميزهن هذا الزي ، ويجعلهن في مأمن من معابثة الفساق . فإن معرفتهن وحشمتهن معا تلقيان الخجل والتحرج في نفوس الذين كانوا يتتبعون النساء لمعابثتهن : ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن . ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين . وكان الله غفورا رحيما ) . .
قال السدي في هذه الآية : كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طريق المدينة فيعرضون للنساء . وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة ، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطريق يقضين حاجتهن ، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن . فإذا رأوا المرأة عليها جلباب . قالوا : هذه حرة . فكفوا عنها . وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا : هذه أمة فوثبوا عليها . .
وقال مجاهد : يتجلببن فيعلم أنهن حرائر ، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة . وقوله تعالى : ( وكان الله غفورا رحيما )أي لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك .
ومن ذلك نرى الجهد المستمر في تطهير البيئة العربية ، والتوجيه المطرد لإزالة كل أسباب الفتنة والفوضى ، وحصرها في أضيق نطاق ، ريثما تسيطر التقاليد الإسلامية على الجماعة كلها وتحكمها .
يقول تعالى آمرا رسوله ، صلى الله عليه وسلم تسليما ، أن يأمر النساء المؤمنات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء . والجلباب هو : الرداء فوق الخمار . قاله ابن مسعود ، وعبيدة ، وقتادة ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء الخراساني ، وغير واحد . وهو بمنزلة الإزار اليوم .
قاله الجوهري : الجلباب : الملحفة ، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلا لها :
تَمْشي النُّسور إليه وَهْيَ لاهيةٌ *** مَشْيَ العَذَارى عَلَيْهِنَّ الجَلابيبُ{[24044]}
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أمر الله نساء المؤمنين{[24045]} إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ، ويبدين عينًا واحدة .
وقال محمد بن سيرين : سألت عَبيدةَ السّلماني عن قول الله تعالى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } ، فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى .
وقال عكرمة : تغطي ثُغْرَة نحرها بجلبابها تدنيه عليها .
وقال{[24046]} ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو عبد الله الظَّهراني{[24047]} فيما كتب إليّ ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن خُثَيْم ، عن صفية بنت شيبة ، عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } ، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها{[24048]} .
وقال{[24049]} ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثني الليث ، حدثنا يونس بن يزيد قال : وسألناه{[24050]} يعني : الزهري - : هل على الوليدة خمار متزوجة أو غير متزوجة ؟ قال : عليها الخمار إن كانت متزوجة ، وتنهى عن الجلباب لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر إلا محصنات{[24051]} . وقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } .
وروي عن سفيان الثوري أنه قال : لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة ، إنما ينهى عن ذلك لخوف الفتنة ؛ لا لحرمتهن ، واستدل بقوله تعالى : { وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ } .
وقوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ } أي : إذا فعلن ذلك عُرِفْنَ أنَّهن حرائر ، لسن بإماء ولا عواهر ، قال السدي في قوله تعالى : { [ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ] قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ }{[24052]} قال : كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة ، يتعرضون للنساء ، وكانت مساكن أهل المدينة ضَيِّقة ، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن ، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن ، فإذا رأوا امرأة عليها جلباب قالوا : هذه حرة ، كفوا عنها . وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب ، قالوا : هذه أمة . فوثبوا إليها{[24053]} .
وقال مجاهد : يتجلببن فيعلم أنهن حرائر ، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة .
وقوله : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِن جَلاَبِيبِهِنّ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها النبيّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين ، لا يتشبهن بالإماء في لباسهنّ إذا هن خرجن من بيوتهنّ لحاجتهنّ ، فكشفن شعورهنّ ووجوههنّ ، ولكن ليدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ، لئلا يعرض لهنّ فاسق ، إذا علم أنهنّ حرائر بأذى من قول .
ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهنّ الله به ، فقال بعضهم : هو أن يغطين وجوههنّ ورؤوسهنّ ، فلا يبدين منهنّ إلا عينا واحدة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهنّ في حاجة أن يغطين وجوههنّ من فوق رؤوسهنّ بالجلابيب ، ويبدين عينا واحدة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد ، عن عُبيدة في قوله : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ فلبسها عندنا ابن عون ، قال : ولبسها عندنا محمد ، قال محمد : ولبسها عندي عبيدة قال ابن عون بردائه ، فتقنّع به ، فغطى أنفه وعينه اليسرى ، وأخرج عينه اليمنى ، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه أو على الحاجب .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة ، عن قوله : قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ قال : فقال بثوبه ، فغطى رأسه ووجهه ، وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه .
وقال آخرون : بل أمرن أن يشددن جلابيبهنّ على جباههنّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ . . . . إلى قوله : وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما قال : كانت الحرّة تلبس لباس الأمة ، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ وإدناء الجلباب : أن تقنع وتشدّ على جبينها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ المُؤْمِنِينَ أخذ الله عليهنّ إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب ذلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وقد كانت المملوكة إذا مرّت تناولوها بالإيذاء ، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ يتجلببن فيُعلم أنهنّ حوائر فلا يعرض لهنّ فاسق بأذى من قول ولا ريبة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عمن حدثه ، عن أبي صالح ، قال : قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة على غير منزل ، فكان نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهنّ إذا كان الليل خرجن يقضين حوائجهنّ ، وكان رجال يجلسون على الطريق للغزل ، فأنزل الله : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ يقنعن بالجلباب حتى تعرف الأمة من الحرّة .
وقوله : ذلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ فَلأ يُؤْذَيْنَ يقول تعالى ذكره : إدناؤهنّ جلابيبهنّ إذا أدنينها عليهنّ أقرب وأحرى أن يعرفن ممن مررن به ، ويعلموا أنهنّ لسن باماء ، فيتنكّبوا عن أذاهنّ بقول مكروه ، أو تعرّض بريبة وكانَ اللّهُ غَفُورا لما سلف منهنّ من تركهنّ إدناءهنّ الجلابيب عليهنّ رَحِيما بهنّ أن يعاقبهنّ بعد توبتهنّ بادناء الجلابيب عليهنّ .
لما كانت عادة العربيات التبذل في معنى الحجبة وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكر فيهن أمر الله تعالى رسوله عليه السلام بأمرهن بإدناء الجلابيب ، ليقع سترهن ويبين الفرق بين الحرائر والإماء ، فيعرف الحرائر بسترهن فكيف عن معارضتهن من كان غزلاً أو شاباً وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، و «الجلباب » ثوب أكبر من الخمار ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء واختلف الناس في صورة إدنائه ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وعبيدة السلماني{[9578]} : ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه ، وقوله تعالى : { ذلك أدنى أن يعرفن } أي على الجملة بالفرق حتى لا يختلطن بالإماء ، فإذا عرفن لم يقابلن بأذى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية ، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى يعلم من هي ، وكان عمر إذا رأى أمة قد تقنعت قنعها الذرة محافظة على زي الحرائر ، وباقي الآية ترجية ولطف وحظ على التوبة وتطميع في رحمة الله تعالى ، وفيها تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع .