{ 45 - 46 } { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
يذكر تعالى حالة المشركين ، وما الذي اقتضاه شركهم أنهم { إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ } توحيدا له ، وأمر بإخلاص الدين له ، وترك ما يعبد من دونه ، أنهم يشمئزون وينفرون ، ويكرهون ذلك أشد الكراهة .
{ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } من الأصنام والأنداد ، ودعا الداعي إلى عبادتها ومدحها ، { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } بذلك ، فرحا بذكر معبوداتهم ، ولكون الشرك موافقا لأهوائهم ، وهذه الحال أشر الحالات وأشنعها ، ولكن موعدهم يوم الجزاء . فهناك يؤخذ الحق منهم ، وينظر : هل تنفعهم آلهتهم التي كانوا يدعون من دون اللّه شيئا ؟ .
وفي هذا الموقف الذي يتفرد فيه الله سبحانه بالملك والقهر يعرض كيف هم ينفرون من كلمة التوحيد ويهشون لكلمة الشرك ، الذي ينكره كل ما حولهم في الوجود :
( وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ) .
والآية تصف واقعة حال على عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين كان المشركون يهشون ويبشون إذا ذكرت آلهتهم ؛ وينقبضون وينفرون إذا ذكرت كلمة التوحيد . ولكنها تصف حالة نفسية تتكرر في شتى البيئات والأزمان . فمن الناس من تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى الله وحده إلهاً ، وإلى شريعة الله وحدها قانوناً ، وإلى منهج الله وحده نظاماً . حتى إذا ذكرت المناهج الأرضية والنظم الأرضية والشرائع الأرضية هشوا وبشوا ورحبوا بالحديث ، وفتحوا صدورهم للأخذ والرد . هؤلاء هم بعينهم الذين يصور الله نموذجاً منهم في هذه الآية ، وهم بذاتهم في كل زمان ومكان . هم الممسوخو الفطرة ، المنحرفو الطبيعة ، الضالون المضلون ، مهما تنوعت البيئات والأزمنة ، ومهما تنوعت الأجناس والأقوام .
ثم قال تعالى ذاما للمشركين أيضا : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ } أي : إذا قيل : لا إله إلا الله { اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } قال مجاهد : { اشْمَأَزَّتْ } انقبضت .
وقال السدي : نفرت . وقال قتادة : كفرت واستكبرت . وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : استكبرت . كما قال تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } [ الصافات : 35 ] ، أي : عن المتابعة والانقياد لها . فقلوبهم{[25152]} لا تقبل الخير ، ومن لم يقبل الخير يقبل الشر ؛ ولهذا قال : { وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } أي : من الأصنام والأنداد ، قاله مجاهد ، { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي : يفرحون ويسرون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزّتْ قُلُوبُ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا أفرد الله جلّ ثناؤه بالذكر ، فدعي وحده ، وقيل لا إله إلا الله ، اشمأزّت قلوب الذين لا يؤمنون بالمعاد والبعث بعد الممات . وعني بقوله : اشْمأَزّتْ : نفرت من توحيد الله . وَإذَا ذُكِرَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ يقول : وإذا ذُكر الاَلهة التي يدعونها من دون الله مع الله ، فقيل : تلك الغرانيق العُلى ، وإن شفاعتها لترتجى ، إذا الذين لا يؤمنون بالاَخرة يستبشرون بذلك ويفرحون ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذَا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمأَزّتْ قُلُوبُ الّذِينَ لا يُوءْمِنُونَ بالاَخِرَة : أي نفرت قلوبهم واستكبرت وَإذَا ذُكِرَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ الاَلهة إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : اشمأَزّتْ قال : انقبضت ، قال : وذلك يوم قرأ عليهم «النجم » عند باب الكعبة .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قوله : اشْمأزّتْ قال : نفرت وَإذَا ذُكِرَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ أوثانهم .
{ وإذا ذكر الله وحده } دون آلهتهم . { اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } انقبضت ونفرت . { وإذا ذكر الذين من دونه } يعني الأوثان . { إذا هم يستبشرون } لفرط افتتانهم بها ونسيانهم حق الله ، ولقد بالغ في الأمرين حتى بلغ الغاية فيهما ، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ، والاشمئزاز أن يمتلئ غما حتى ينقبض أديم وجهه ، والعامل في { إذا ذكر } العامل في إذ المفاجأة .
وقوله تعالى : { وإذا ذكر الله وحده } الآية ، قال مجاهد وغيره : نزلت في قراءة النبي عليه السلام سورة النجم عند الكعبة بمحضر من الكفار ، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته ، فقال : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، إنهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهم لترتجى } [ النجم : 19 ] فاستبشر الكفار بذلك وسروا ، فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان ، أنفوا واستكبروا و اشمأزت نفوسهم{[9907]} ، ومعناه تقبضت كبراً أو أنفة وكراهية ونفوراً ، ومنه قول عمرو بن كلثوم : [ الوافر ]
إذا عض الثقاف بها اشمأزت . . . وولته عشوزنة زبونا{[9908]}
و : { الذين من دونه } يريد الذين يعبدون من دونه ، وجاءت العبارة في هذه الآية عن الأصنام كما يجيء عمن يعقل من حيث صارت في حيز من يعقل ، ونسب إليها الضر والنفع والألوهية ، ونفي ذلك عنها فعوملت معاملة من يعقل . و : { وحده } منصوب عند سيبويه على المصدر ، وعند الفراء على الحال .
عطف على جملة { اتخذوا من دون الله شفعاء } [ الزمر : 43 ] لإِظهار تناقضهم في أقوالهم المشعر بأن ما يقولونه أقضية سُفسطائية يقولونها للتنصل من دمغات الحجج التي جبهَهُم بها القرآن ، فإنهم يعتذرون تارة على إشراكهم بأن شركاءهم شفعاء لهم عند الله . وهذا يقتضي أنهم معترفون بأن الله هو إلههم وإله شركائهم ، ثم إذا ذكَر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله واحد أو ذكر المسلمون كلمة لا إله إلا الله اشمأزّت قلوب المشركين من ذلك . وكذلك إذا ذكر الله بأنه إله الناس ولم يذكر مع ذكره أن أصنامهم شركاء لله اشمأزت قلوبهم من الاقتصار على ذكر الله فلا يرضون بالسكوت عن وصف أصنامهم بالإِلهية وذلك مؤذن بأنهم يسوُّونها بالله تعالى .
فقوله : { وحْدَهُ } لك أن تجعله حالاً من اسم الجلالة ومعناه منفرداً . ويقدر في قوله : { ذُكِر الله } معنى : ذكر بوصف الإِلهية ويكون معنى { ذُكِر الله وَحْده } ذُكر تفرده بالإلهية . وهذا جار على قول يونس بن حبيب في { وحده } . ولك أن تجعله مصدراً وهو قول الخليل بن أحمد ، أي هو مفعول مطلق لفعللِ { ذُكِرَ } لبيان نوعه ، أي ذِكْراً وحْداً ، أي لم يذكر مع اسم الله أسماء أصنامهم . وإضافة المصدر إلى ضمير الجلالة لاشتهار المضاف إليه بهذا الوحْد . وهذا الذكر هو الذي يجري في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصلوات وتلاوة القرآن وفي مجامع المسلمين .
ومعنى { إذا ذُكر الذين من دونه } إذا ذُكرت أَصنامهم بوصف الإِلهية وذلك حين يسمعون أقوال جماعة المشركين في أحاديثهم وأيمانهم باللات والعزى ، أي ولم يذكر اسم الله معها فاستبشارهم بالاقتصار على ذكر أصنامهم مؤذن بأنهم يرجحون جانب الأصنام على جانب الله تعالى . والذكر : هو النطق بالاسم . والمراد إذا ذكَر المسلمون اسم الله أشمأز المشركون لأنهم لم يسمعوا ذكر آلهتهم وإذا ذكر المشركون أسماء أصنامهم استبشر الذين يسمعونهم من قومهم . والتعبير عن آلهتهم ب { الذين من دونه } دونَ لفظ : شركائهم أو شفعائهم ، للإِيماء إلى أن علة استبشارهم بذلك الذكر هو أنه ذكر من هم دون الله ، أي ذِكر مناسب لهذه الصلة ، أي هو ذكر خاللٍ عن اسم الله ، فالمعنى : وإذا ذكر شركاؤُهم دُون ذِكر الله إذا هم يستبشرون .
والاقتصار على التعرض لهذين الذكرين لأنهما أظهر في سوء نوايا المشركين نحو الله تعالى ، وفي بطلان اعتذارهم بأنهم ما يعبدون الأصنام إلا ليقربُّوهم إلى الله ويشفعوا لهم عنده ، فأما الذكر الذي يذكر فيه اسم الله وأسماءُ آلهتهم كقولهم في التلبية : لبَيْك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملِكه وما ملك ، فذلك ذكر لا مناسبة له بالمقام .
وذكَر جمع من المفسرين لقوله : { إذا ذكر الذين من دونه } أنه إشارة إلى ما يُروى من قصة الغرانيق ، ونسب تفسير ذلك بذلك إلى مجاهد ، وهو بعيد عن سياق الآية .
ومن البناء على الأخبار الموضوعة فللَّه در من أعرضوا عن ذكر ذلك .
والاشمئزار : شدة الكراهية والنفورِ ، أي كرهتْ ذلك قلوبهم ومداركهم .
والاستبشار : شدة الفرح حتى يظهر أثر ذلك على بَشَرة الوجه ، وتقدم في قوله : { وجاء أهل المدينة يستبشرون } في سورة [ الحِجر : 67 ] .
ومقابلة الاشمئزاز بالاستبشار مطابقة كاملة لأن الاشمئزاز غاية الكراهية والاستبشار غاية الفرح .
والتعبير عن المشركين بالذين لا يؤمنون بالآخرة } لأنهم عُرفوا بهذه الصلة بين الناس مع قصد إعادة تذكيرهم بوقوع القيامة .
و { إذا } الأولى و { إذا } الثانية ظرفان مضمنان معنى الشرط كما هو الغالب . و { إذا } الثالثة للمفاجأة للدلالة على أنهم يعاجلهم الاستبشار حينئذٍ من فرط حبهم آلهتهم . ولذلك جيء بالمضارع في { يستبشرون } دون أن يقال : مستبشرون ، لإِفادة تجدّد استبشارهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا ذكر الله وحده اشمأزت} يعني انقبضت، ويقال: نفرت عن التوحيد.
{قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} يعني لا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، يعني كفار مكة.
{وإذا ذكر الذين} عبدوا {من دونه} من الآلهة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا أفرد الله جلّ ثناؤه بالذكر، فدعي وحده، وقيل لا إله إلا الله، اشمأزّت قلوب الذين لا يؤمنون بالمعاد والبعث بعد الممات. وعني بقوله:"اشْمأَزّتْ": نفرت من توحيد الله.
"وَإذَا ذُكِرَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ" يقول: وإذا ذُكر الآلهة التي يدعونها من دون الله مع الله... إذا الذين لا يؤمنون بالآخرة يستبشرون بذلك ويفرحون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
مدار المعنى على قوله وحده: أي إذا أفرد الله بالذكر ولم يذكر معه آلهتهم اشمأزوا».
{وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ} وهم آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكر استبشروا، لافتتانهم بها ونسيانهم حق الله إلى هواهم فيها...
ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز؛ إذ كل واحد منهما غاية في بابه؛ لأنّ الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلّل، والاشمئزاز: أن يمتلئ غماً وغيظاً حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه.
فإن قلت: ما العامل في {إِذَا ذُكِرَ}؟ قلت: العامل في إذا المفاجأة، تقديره وقت ذكر الذين من دونه، فاجأوا وقت الاستبشار...
وذلك يدل على الجهل والحماقة؛ لأن ذكر الله رأس السعادات وعنوان الخيرات، وأما ذكر الأصنام التي هي الجمادات الخسيسة، فهو رأس الجهالات والحماقات، فنفرتهم عن ذكر الله وحده واستبشارهم بذكر هذه الأصنام من أقوى الدلائل على الجهل الغليظ والحمق الشديد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما دل على أن شفعاءهم ليست بأهل للشفاعة، وعلى أن الأمر كله مقصور عليه، وختم بأنه لا بد من الرجوع إليه المقتضي لأن تصرف الهمم كلها نحوه، وتوجه العزائم جميعها تلقاءه؛ ولأنه لا يخشى سواه ولا يرجى غيره، ذكر حالاً من أحوالهم فقال: {وإذا} أي الحال ما ذكرناه وإذا {ذكر} وأعاد الاسم الأعظم ولم يضمره تعظيماً لأمره زيادة في تقبيح حالهم فقال: {الله} أي الذي لا عظيم غيره ولا أمر لسواه.
{وحده} أي دون شفعائهم التي قد وضح أنه لا شفاعة لهم: {اشمأزّت} أي نفرت كراهية وذعراً واستكباراً مع تمعر الوجه وتقبضه قلوبهم -هكذا كان الأصل، ولكنه قال: {قلوب الذين لا يؤمنون} أي لا يجددون إيماناً.
{بالآخرة} بياناً لأن الحامل لهم على ذلك إضاعة اعتقاد ما ختم به الآية من الرجوع إليه الذي أتمه وأظهره رجوع الآخرة.
{وإذا ذكر الذين} وبكت بهم في رضاهم بالأدنى فقال: {من دونه} أي الأوثان، وأكد فرط جهلهم في اتباعهم الباطل وجمودهم عليه دون تلبث لنظر في دليل، أو سماع لقال أو قيل، بقوله: {إذا هم} أي بضمائرهم المفيضة على ظواهرهم.
{يستبشرون} وعبر بالفعل أولاً وبالاسمية ثانياً، ليفيد ذمهم على مطلق الاشمئزاز ولو كان على أدنى الأحوال، وعلى ثبات الاستبشار تقبيحاً لمطلق الكفر، ثم الثبات عليه فتحاً لباب التوبة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآية تصف واقعة حال على عهد النبي [صلى الله عليه وسلم] حين كان المشركون يهشون ويبشون إذا ذكرت آلهتهم؛ وينقبضون وينفرون إذا ذكرت كلمة التوحيد. ولكنها تصف حالة نفسية تتكرر في شتى البيئات والأزمان، فمن الناس من تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى الله وحده إلهاً، وإلى شريعة الله وحدها قانوناً، وإلى منهج الله وحده نظاماً، حتى إذا ذكرت المناهج الأرضية والنظم الأرضية والشرائع الأرضية هشوا وبشوا ورحبوا بالحديث، وفتحوا صدورهم للأخذ والرد. هؤلاء هم بعينهم الذين يصور الله نموذجاً منهم في هذه الآية، وهم بذاتهم في كل زمان ومكان، هم الممسوخو الفطرة، المنحرفو الطبيعة، الضالون المضلون، مهما تنوعت البيئات والأزمنة، ومهما تنوعت الأجناس والأقوام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {اتخذوا من دون الله شفعاء} [الزمر: 43] لإِظهار تناقضهم في أقوالهم المشعر بأن ما يقولونه أقضية سُفسطائية يقولونها للتنصل من دمغات الحجج التي جبهَهُم بها القرآن، فإنهم يعتذرون تارة على إشراكهم بأن شركاءهم شفعاء لهم عند الله، وهذا يقتضي أنهم معترفون بأن الله هو إلههم وإله شركائهم، ثم إذا ذكَر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله واحد أو ذكر المسلمون كلمة لا إله إلا الله اشمأزّت قلوب المشركين من ذلك. وكذلك إذا ذكر الله بأنه إله الناس ولم يذكر مع ذكره أن أصنامهم شركاء لله اشمأزت قلوبهم من الاقتصار على ذكر الله فلا يرضون بالسكوت عن وصف أصنامهم بالإِلهية، وذلك مؤذن بأنهم يسوُّونها بالله تعالى...
{إذا ذُكر الذين من دونه} إذا ذُكرت أَصنامهم بوصف الإِلهية وذلك حين يسمعون أقوال جماعة المشركين في أحاديثهم وأيمانهم باللات والعزى، أي ولم يذكر اسم الله معها، فاستبشارهم بالاقتصار على ذكر أصنامهم مؤذن بأنهم يرجحون جانب الأصنام على جانب الله تعالى...
والتعبير عن آلهتهم ب {الذين من دونه} دونَ لفظ: شركائهم أو شفعائهم، للإِيماء إلى أن علة استبشارهم بذلك الذكر هو أنه ذكر من هم دون الله، أي ذِكر مناسب لهذه الصلة، أي هو ذكر خالٍ عن اسم الله، فالمعنى: وإذا ذكر شركاؤُهم دُون ذِكر الله إذا هم يستبشرون...
والاقتصار على التعرض لهذين الذكرين؛ لأنهما أظهر في سوء نوايا المشركين نحو الله تعالى، وفي بطلان اعتذارهم بأنهم ما يعبدون الأصنام إلا ليقربُّوهم إلى الله ويشفعوا لهم عنده... والتعبير عن المشركين ب {الذين لا يؤمنون بالآخرة}؛ لأنهم عُرفوا بهذه الصلة بين الناس مع قصد إعادة تذكيرهم بوقوع القيامة.
و {إذا} الأولى و {إذا} الثانية ظرفان مضمنان معنى الشرط كما هو الغالب.
و {إذا} الثالثة للمفاجأة للدلالة على أنهم يعاجلهم الاستبشار حينئذٍ من فرط حبهم آلهتهم، ولذلك جيء بالمضارع في {يستبشرون} دون أن يقال: مستبشرون، لإِفادة تجدّد استبشارهم...
كلمة (اشْمأزَّتْ) يعني: نفرتْ. والإنسان حينما يسمع شيئاً لا يحبه يشمئز يعني: يظهر على سحنته الامتعاض، ثم تحدث منه نفرة وقشعريرة كئيبة، ثم ينصرف عن هذا الشيء، كذلك حال هؤلاء لما سمعوا ذكر الله وحده نفرتْ نفوسهم، وانقبضوا عن توحيد الله، لكن لماذا؟
قالوا: لأنك ذكَّرته بمَنْ يثق تمام الثقة أنه يملك ضُره ونفعه، وإلا لو لم تكُنْ لديه هذه الثقة ما أثَّر ذكر الله في نفسه، إذن: اشمأزتْ قلوبهم لأنهم خافوا من شيء، وساعةَ سمعوا ذكر الله تذكَروا جلاله وقدرته وعظمته، وتذكّروا أنهم مُقبلون عليه واقفون بين يديه، ولم يعملوا لهذا الموقف.
وكلمة {وَحْدَهُ} تدل على مَيْلهم إلى الشركاء، فالمعنى: لو ذُكر الشركاء ما اشمأزتْ قلوبهم. واشمئزاز القلوب أمر غيبي ينضح على الوجه بالانفعال، فيبدو على الوجه أنه منقبض انقباضاً مؤلماً، والآية لم تذكر لماذا اشمأزت قلوبهم مما يدل على أن القلبَ هو المحرك الذي يعطي الجوارحَ الانفعال بواقع الأشياء عليها، فمثلاً تقابل شخصاً فتجد نفسك مبتهجاً، وآخر تقابله فتجد نفسك مُهتماً أو منقبضاً عنه، فمن أين هذه الانفعالات؟ من القلب.
وقوله: {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ..} أي: الشركاء {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي: يفرحون، لماذا؟ لأنهم يظنون أنهم يشفعون لهم، لكنهم خائبون في هذه، وخائبون في هذه.