ولكنهم { عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } أي : مضيعون لها ، تاركون لوقتها ، مفوتون لأركانها{[1481]} ، وهذا لعدم اهتمامهم بأمر الله حيث ضيعوا الصلاة ، التي هي أهم الطاعات وأفضل القربات ، والسهو عن الصلاة ، هو الذي يستحق صاحبه الذم واللوم{[1482]} ، وأما السهو في الصلاة ، فهذا يقع من كل أحد ، حتى من النبي صلى الله عليه وسلم . ولهذا وصف الله هؤلاء بالرياء والقسوة وعدم الرحمة ، فقال : { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } .
وقوله : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلّينَ الّذِين هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } يقول تعالى ذكره : فالوادي الذي يسيل من صديد أهل جهنم للمنافقين الذين يصلون ، لا يريدون الله عزّ وجلّ بصلاتهم ، وهم في صلاتهم ساهون إذا صلوها .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } فقال بعضهم : عُنِي بذلك أنهم يؤخّرونها عن وقتها ، فلا يصلونها إلا بعد خروج وقتها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سكن بن نافع الباهلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن خلف بن حَوْشَبِ ، عن طلحة بن مُصَرّف ، عن مصعب بن سعد ، قال : قلت لأبي ، أرأيت قول الله عزّ وجلّ : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } : أيه تركها ؟ قال : لا ، ولكن تأخيرها عن وقتها .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن هشام الدّسْتَوائي ، قال : حدثنا عاصم بن بهدلة . عن مصعب بن سعد ، قال : قلت لسعد : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } : أهو ما يحدّث به أحدنا نفسه في صلاته ؟ قال : لا ، ولكن السهو أن يؤخّرها عن وقتها .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن مصعب بن سعد { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : السهو : الترك عن الوقت .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عمران بن تمام البُنَانيّ ، قال : حدثنا أبو جمرة الضّبَعِيّ نصر بن عمران ، عن ابن عباس ، في قوله : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : الذين يؤخّرونها عن وقتها .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن ابن أبزى : { فويل للمصلين الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : الذين يُؤّخرون الصلاة المكتوبة ، حتى تخرج من الوقت أو عن وقتها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : الترك لوقتها .
حدثني أبو السائب ، قال : ثني أبو معاوية ، عن الأَعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، في قوله : { الّذِينَ هُم عَنْ صْلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : تضييع مِيقاتها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى { عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : ترك المكتوبة لوقتها .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا يحيى بن أيوب ، قال : أخبرني ابن زَحْر ، عن الأعمش ، عن مسلم بن صبيح { عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } الذين يضيعونها عن وقتها .
وقال آخرون : بل عُني بذلك أنهم يتركونها فلا يصلونها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلّينَ الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } فهم المنافقون كانوا يراؤون الناس بصلاتهم إذا حضروا ، ويتركونها إذا غابوا ، ويمنعونهم العارية بغضا لهم ، وهو الماعون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : هم المنافقون يتركون الصلاة في السرّ ، ويصلون في العلانية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : الترك لها .
وقال آخرون : بل عُني بذلك أنهم يتهاونون بها ، ويتغافلون عنها ويَلْهُونَ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : لاهون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } : غافلون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : ساهٍ عنها ، لا يبالي صلّى أم لم يصلّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ } ساهُونَ يصلون ، وليست الصلاة من شأنهم .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : يتهاونون .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب بقوله : ساهُونَ : لاهون يتغافلون عنها ، وفي اللهو عنها والتشاغل بغيرها ، تضييعها أحيانا ، وتضييع وقتها أخرى . وإذا كان ذلك كذلك صحّ بذلك قول من قال : عُنِي بذلك ترك وقتها ، وقول من قال : عُنِي به تركها ، لما ذكرت من أن في السهو عنها المعاني التي ذكرت .
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خبران يؤيدان صحة ما قلنا في ذلك :
أحدهما ما حدثني به زكريا بن أبان المصريّ ، قال : حدثنا عمرو بن طارق ، قال : حدثنا عكرِمة بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الملك بن عُمَير ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، عن { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : «هم الذين يؤخّرون الصلاة عن وقتها » .
والآخر منهما ما حدثني به أبو كُرَيب ، قال : حدثنا معاوية بن هشام ، عن شبيان النحويّ ، عن جابر الجُعْفِيّ ، قال : ثني رجل ، عن أبي بَرْزة الأسلميّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما نزلت هذه الاَية : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } : «الله أكبرُ هذه خيرٌ لكم من أن لو أُعطيَ كلّ رجل منكم مثلَ جميع الدنيا ، هو الذي إن صلى لم يرجُ خير صلاته ، وإن تركها لم يخف ربه » .
حدثني أبو عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سمعت عمر بن سليمان يحدّث عن عطاء بن دينار أنه قال : الحمد لله الذي قال : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } .
وكلا المعنيين اللذين ذكرت في الخبرين اللذين روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم محتمل عن معنى السهو عن الصلاة .
ويروى أن هذه السورة نزلت في بعض المضطرين في الإسلام بمكة الذين لم يحققوا فيه ، وفتنوا فافتتنوا ، وكانوا على هذه الخلق من الغشم وغلظ العشرة والفظاظة على المسلمين ، وربما كان بعضهم يصلي أحياناً مع المسلمين مدافعة وحيرة ، فقال تعالى فيهم : { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } . قال ابن جريج : كان أبو سفيان ينحر كل أسبوع جزوراً فجاءه يتيم ، فقرعه بعصا فنزلت السورة فيه . وقال سعد بن أبي وقاص : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن { الذين هم عن صلاتهم ساهون } ، فقال : هم الذين يؤخرونها عن وقتها{[11998]} ، يريد والله أعلم تأخير ترك وإهمال ، وإلى هذا نحا مجاهد ، وقال قتادة : { ساهون } : هو الترك لها ، وهم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم صلى أو لم يصل . وقال عطاء بن يسار : الحمد لله الذي قال : { عن صلاتهم } ، ولم يقل في صلاتهم . وفي قراءة ابن مسعود : «لاهون » بدل { ساهون } .