29- ويا قوم ، لا أطلب منكم على تبليغ رسالة ربى مالا ، وإنما أطلب جزائي من الله ، وما أنا بطارد الذين آمنوا بربهم عن مجلسي ومعاشرتي ، لمجرد احتقاركم لهم . لأنهم سيلاقون ربهم يوم القيامة ، فيشكونني إليه إن طردتهم لفقرهم ، ولكنى أراكم قوماً تجهلون ما يصح أن يتفاضل به الخلق عند الله . أهو الغنى والجاه ، كما تزعمون ؟ أم اتّباع الحق وعمل الخير ؟ .
{ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي : على دعوتي إياكم { مَا لَا } فستستثقلون المغرم .
{ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ } وكأنهم طلبوا منه طرد المؤمنين الضعفاء ، فقال لهم : { وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا } أي : ما ينبغي لي ، ولا يليق بي ذلك ، بل أتلقاهم بالرحب والإكرام ، والإعزاز والإعظام { إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ } فمثيبهم على إيمانهم وتقواهم بجنات النعيم .
{ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } حيث تأمرونني ، بطرد أولياء الله ، وإبعادهم عني . وحيث رددتم الحق ، لأنهم أتباعه ، وحيث استدللتم على بطلان الحق بقولكم إني بشر مثلكم وإنه ليس لنا عليكم من فضل .
( ويا قوم لا أسألكم عليه مالا ، إن أجري إلا على الله ، وما أنا بطارد الذين آمنوا ، إنهم ملاقو ربهم ، ولكني أراكم قوما تجهلون ) .
يا قوم إن الذين تدعونهم أراذل قد دعوتهم فآمنوا ، وليس لي عند الناس إلا أن يؤمنوا . إنني لا أطلب مالا على الدعوة ، حتى أكون حفيا بالأثرياء غير حفي بالفقراء ؛ فالناس كلهم عندي سواء . . ومن يستغن عن مال الناس يتساو عنده الفقراء والأغنياء . .
( وما أنا بطارد الذين آمنوا ) . .
ونفهم من هذا الرد أنهم طلبوا أو لوحوا له بطردهم من حوله ، حتى يفكروا هم في الإيمان به ، لأنهم يستنكفون أن يلتقوا عنده بالأراذل ، أو أن يكونوا وإياهم على طريق واحد ! - لست بطاردهم ، فهذا لا يكون مني . لقد آمنوا وأمرهم بعد ذلك إلى الله لا لي :
إنهم ملاقوا ربهم . . ( ولكني أراكم قوما تجهلون ) . .
تجهلون القيم الحقيقية التي يقدر بها الناس في ميزان الله . وتجهلون أن مرد الناس كلهم إلى الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقَوْمِ لآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّهُمْ مّلاَقُو رَبّهِمْ وَلََكِنّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } .
وهذا أيضا خبر من الله عن قيل نوح لقومه أنه قال لهم : يا قَوْمِ لا أسْألُكمْ على نصيحتي لكم ودعايتكم إلى توحيد الله ، وإخلاص العبادة له مالاً : أجرا على ذلك ، فتتهموني في نصيحتي ، وتظنون أن فعلي ذلك طلب عرَض من أعراض الدنيا . إنْ أجْرِيَ إلاّ على اللّهِ يقول : ما ثواب نصيحتي لكم ودعايتكم إلى ما أدعوكم إليه ، إلا على الله ، فإنه هو الذي يجازيني ويثيبني عليه . وَما أنا بِطارِدِ الّذِينَ آمَنُوا وما أنا بمقص من آمن بالله وأقرّ بوحدانيته وخلع الأوثان وتبرأ منها بأن لم يكونوا من عِلْيتكم وأشرافكم . إنّهُمْ مُلاقُوا رَبّهِمْ يقول : إن هؤلاء الذين تسألوني طردهم صائرون إلى الله ، والله سائلهم عما كانوا في الدنيا يعملون ، لا عن شرفهم وحسبهم .
وكان قيل نوح ذلك لقومه ، لأن قومه قالوا له ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَما أنا بِطارِدِ الّذِينَ آمَنُوا إنّهُمْ مُلاقُوا رَبّهِمْ قال : قالوا له : يا نوح إن أحببت أن نتبعك فاطردهم ، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء فقال : ما أنا بِطارِدِ الّذِينَ آمَنُوا إنّهُمْ مُلاقُوا رَبّهِمْ فيسألهم عن أعمالهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح جميعا ، عن مجاهد ، قوله : إنْ أجْرِيَ إلاّ على اللّهِ قال : جزائي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقوله : وَلَكِنّي أرَاكُمْ قَوْما تَجْهَلُونَ يقول : ولكني أيها القوم أراكم قوما تجهلون الواجب عليكم من حقّ الله واللازم لكم من فرائضه ، ولذلك من جهلكم سألتموني أن أطرد الذين آمنوا بالله .
{ ويا قوم لا أسألكم عليه } على التبليغ وهو إن لم يذكر فمعلوم مما ذكر . { مالا } جعلا . { إن أجري إلا على الله } فإنه المأمول منه . { وما أنا بطارد الذين آمنوا } جواب لهم حين سألوا طردهم . { إنهم ملاقو ربهم } فيخاصمون طاردهم عنده ، أو أنهم يلاقونه ويفوزون بقربه فكيف أطردهم . { ولكني أراكم قوما تجهلون } بلقاء ربكم أو بأقدارهم أو في التماس طردهم ، أو تتسفهون عليهم بأن تدعوهم أراذل .
إعادة الخطاب ب { يا قوم } تأكيد لما في الخطاب به أول مرة من المعاني الّتي ذكرناها ، وأما عطف النداء بالواو مع أن المخاطب به واحد وشأن عطف النداء أن يكون عند اختلاف المنادى ، كقول المعري :
يا ساهر البرق أيقظن راقد السمر *** لعل بالجزع أعواناً على السهر
ويا أسيرة حجليها أرى سفها *** حَمْلَ الحُلي بمن أعيَا عن النظر
فأما إذا اتّحد المنادى فالشأن عدم العطف كما في قصة إبراهيم عليه السلام في سورة [ مريم : 42 45 ] { إذ قال لأبيه يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر { إلى قوله { وَلِيّاً } فقد تكرّر النداء أربع مرات .
فتعين هنا أن يكون العطف من مقول نوح عليه السّلام لا من حكاية الله عنه . ثمّ يجوز أن يكون تنبيهاً على اتّصال النداءات بعضها ببعض ، وأن أحدها لا يغني عن الآخر ، ولا يكون ذلك من قبيل الوصل لأن النداء افتتاح كلام فجملته ابتدائية وعطفها إذا عطفت مجرد عطف لفظي . ويجوز أن يكون ذلك تفنناً عربياً في الكلام عند تكرر النداء استحساناً للمخالفة بين التأكيد والمؤكد . وسيجيء نظير هذا قريباً في قصة هود عليه السلام وقصة شعيب عليه السّلام .
ومنه ما وقع في سورة [ المؤمن : 30 33 ] في قوله : { وقال الذي آمن يا قوم إني أخَافُ عَليْكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوحٍ وعادٍ وثمود والذينَ مِن بعَدهم وما الله يريد ظلماً للعباد ويا قوم إنّي أخَافُ علَيكُم يَوْم التنادِ يوم تُولّون مُدبرين ما لكم من الله من عاصمٍ } ثم قال : { وقال الذي آمن يا قوم اتبعونِ أهدكم سبيل الرشاد ، يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإن الآخرة هي دار القرار ، من عملَ سيئَة فَلا يُجزى إلاّ مثلَها ومَن عمِل صالحاً من ذكر أو أنْثى وهو مؤمنٌ فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حسابٍ ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النّار } [ غافر : 38 41 ] . فعطف ( ويا قوم ) تارة وترك العطف أخرى .
وأما مع اختلاف الوصف المنادى به فقد جاء العطف وهو أظهر لما في اختلاف وصف المنادى من شبه التغاير كقول قيس بن عاصم ، وقيل حاتم الطائيء :
أيا ابنةَ عبد الله وابنةَ مالك *** ويا ابنةَ ذي البُردين والفرس الورد
فقوله : ( ويابنة ذي البردين ) عطف نداء على نداء والمنادى بهما واحد .
لما أظهر لهم نوح عليه السّلام أنه يجبرهم على إيمان يكرهونه انتقل إلى تقريبهم من النظر في نزاهة ما جاءهم به ، وأنه لا يريد نفعاً دنيوياً بأنّه لا يسألهم على ما جاء به مالاً يعطونه إياه ، فماذا يتهمونه حتّى يقطعون بكذبه .
والضمير في قوله : { عليه } عائد إلى المذكور بمنزلة اسم الإشارة في قوله { ومن يفعل ذلك } فإن الضمير يعامل معاملة اسم الإشارة .
وجملة { إن أجْري إلاّ على الله } احتراس لأنه لمّا نفى أن يسألهم مالاً ، والمال أجر ، نشأ توهّم أنه لا يسأل جَزاء على الدعوة فجاء بجملة { إن أجْري إلاّ على الله } احتراساً . والمخالفة بين العبارتين في قوله : { مالا } و { أجري } تفيد أنه لا يسأل من الله مالاً ولكنه يسأل ثواباً . والأجر : العوض على عمل . ويسمّى ثواب الله أجراً لأنّه جزاء على العمل الصالح .
وعطف جملة { وما أنا بطارد الذين آمنوا } على جملة { لا أسألكم عليه مالاً } لأنّ مضمونها كالنتيجة لمضمون المعطوف عليها لأن نفي طمعه في المخاطبين يقتضي أنه لا يؤذي أتباعه لأجل إرضاء هؤلاء . ولذلك عبّر عن أتباعه بطريق الموصولية بقوله : { الذين آمنوا } لِما يؤذن به الموصول من تغليظ قومه في تعريضهم له بأن يُطردهم بما أنهم لا يجالسون أمثالهم إيذاناً بأن إيمانهم يوجب تفضيلهم على غيرهم الذين لم يؤمنوا به والرغبةَ فيهم فكيف يطردهم . وهذا إبطال لما اقتضاه قولهم : { وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا } [ هود : 27 ] من التعريض بأنهم لا يماثلونهم في متابعته .
والطرد : الأمر بالبعد عن مكان الحضور تحقيراً أو زجراً . وتقدم عند قوله تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } في سورة [ الأنعام : 52 ] .
وجملة { إنهم ملاقوا ربهم } في موضع التعليل لنفي أن يطردهم بأنهم صائرون إلى الله في الآخرة فمحاسبٌ من يَطردهم ، هذا إذا كانت الملاقاة على الحقيقة ، أو أراد أنهم يدعون ربهم في صلاتهم فينتصر الله لهم إذا كانت الملاقاة مجازية ، أو أنهم ملاقو ربهم حين يحضرون مجلس دعوتي لأنّي أدعو إلى الله لا إلى شيء يخصّني فهم عند ملاقاتي كمن يلاقون ربّهم لأنهم يتلقون ما أوحى الله إليّ . وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة النفَر الثلاثة الذين حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فجلس أحدهم ، واستحَيَا أحدهم ، وأعرض الثالث « أمّا الأول فآوَى إلى الله فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه » .
وتأكيد الخبر ب ( إنّ ) إنْ كان اللقاء حقيقة لرد إنكار قومه البعث ، وإنْ كان اللقاء مجازاً فالتّأكيد للاهتمام بذلك اللقاء . وقد زيد هذا التأكيد تأكيداً بجملة { ولكني أراكم قوماً تجهلون } .
وموقع الاستدراك هو أن مضمون الجملة ضد مضمون التي قبلها وهي جملة { إنهم ملاقوا ربهم } أي لا ريب في ذلك ولكنكم تجهلون فتحسبونهم لا حضرة لهم وأن لا تبعة في طردهم .
وحذف مفعول { تجهلون } للعلم به ، أي تجهلون ذلك .
وزيادة قوله : { قوماً } يدل على أن جهلهم صفة لازمة لهم كأنها من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى : { لآياتٍ لقومٍ يعقلون } في سورة [ البقرة : 164 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويا قوم لا أسألكم عليه مالا} يعني جُعلا على الإيمان، {إن أجري} يعني ما جزائي، {إلا على الله} في الآخرة، {وما أنا بطارد الذين ءامنوا}، يعني وما أنا بالذي لا أقبل الإيمان من السفلة عندكم، ثم قال: {إنهم ملاقوا ربهم}، فيجزئهم بإيمانهم، كقوله: {إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون} [الشعراء:113]... {ولكني أراكم قوما تجهلون} ما آمركم به، وما جئت به...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا أيضا خبر من الله عن قيل نوح لقومه أنه قال لهم: يا قَوْمِ لا أسْألُكمْ على نصيحتي لكم ودعايتكم إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له "مالاً": أجرا على ذلك، فتتهموني في نصيحتي، وتظنون أن فعلي ذلك طلب عرَض من أعراض الدنيا. "إنْ أجْرِيَ إلاّ على اللّهِ "يقول: ما ثواب نصيحتي لكم ودعايتكم إلى ما أدعوكم إليه، إلا على الله، فإنه هو الذي يجازيني ويثيبني عليه. "وَما أنا بِطارِدِ الّذِينَ آمَنُوا": وما أنا بِمُقْص من آمن بالله وأقرّ بوحدانيته وخلع الأوثان وتبرأ منها بأن لم يكونوا من عِلْيتكم وأشرافكم. "إنّهُمْ مُلاقُوا رَبّهِمْ" يقول: إن هؤلاء الذين تسألوني طردهم صائرون إلى الله، والله سائلهم عما كانوا في الدنيا يعملون، لا عن شرفهم وحسبهم...
وقوله: "وَلَكِنّي أرَاكُمْ قَوْما تَجْهَلُونَ" يقول: ولكني أيها القوم أراكم قوما تجهلون الواجب عليكم من حقّ الله واللازم لكم من فرائضه، ولذلك من جهلكم سألتموني أن أطرد الذين آمنوا بالله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً) يحتمل وجهين: أحدهما: على تبليغ الرسالة إليكم أو على إقامة الحجة على ما أبلغكم من الرسالة أو على الدين الذي أدعوكم إليه؛ أي لا أسألكم على ذلك أجرا. فلماذا تعرضون عما أدعوكم إليه، وأقيمه عليكم ليكون لكم الاحتجاج أو الاعتذار؟... ذكر هذا لأن ما يلحق الإنسان من الضرر إنما يمنعه عن الإذعان للحق [في الأصل و م: بالحق] والإقبال إليه والقيام بوفائه، أو يمنع ذلك بما لا يتبين له الحق لئلا يكون لهم الاحتجاج والاعتذار عند الله، وإن لم يكن لهم حجة كقوله (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) [النساء: 165] ليس على أنه إذا سألهم على ذلك أجرا يكون لهم عذر في رد ذلك وترك الإجابة؛ إن لله أن يكلفهم الإجابة والطاعة له.
والثاني بقوله: (لا أسألكم) على ما أدعوكم إليه، وأبلغه إليكم مالا مع حاجتي وقلة مالي، فيقع عندكم أني أدعوكم إليه رغبة في ما في أيديكم من الأموال أو لمنفعة نفسي، بل إنما أدعوكم إليه لمنفعة أنفسكم. وقوله تعالى: (إن أجري إلا على الله) أي ما أجري إلا على الله في ذلك ليس عليكم.
(وما أنا بطارد الذين آمنوا) فيه دلالة: كأنهم سألوا رسولهم أن يتخذ لهم مجلسا على حدة، ويفرد لهم ذلك دون الأراذل والضعفاء، وهو كقوله: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) الآية [الأنعام: 52]. وقال أهل التأويل: (وما أنا بطارد الذين آمنوا) أي ما أنا بالذي لا أقبل الإيمان من الأراذل والضعفاء عندكم لقولهم الذي قالوا: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) [هود: 27] لأنهم يقولون: اتبعك الأراذل ظاهرا، وأما في الباطن فليسوا على ذلك. ولذلك قال: (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ) [هود: 31] يعني ما في قلوب السفلة، فيقول: (وما أنا بطارد الذين آمنوا) ظاهرا: الله أعلم بما في القلوب.
(إنهم ملاقوا ربهم) يحتمل وجهين:
أحدهما: أي ملاقوا ربهم، فيشكون مني إليه في رد إيمانهم، ويخاصمونني في ذلك، ويطالبونني في طردي إياهم.
والثاني: (إنهم ملاقوا ربهم) ظاهرا كان إيمانهم أو باطنا؛ أي في أي حال هم ملاقو ربهم، فيجزيهم بما هم عليه كقوله (إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) [الشعراء: 113].
(ولكني أراكم قوما تجهلون) يحتمل (تجهلون) ما أدعوكم إليه، أو (تجهلون) في قولكم: إنهم آمنوا، واتبعوا في ظاهر الحال وأما في السر فلا، أو (تجهلون) ما يلحقني في طردهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
سُنَّة الأنبياء -عليهم السلام- ألا يطلبوا على رسالتهم أجراً، وأَلاَّ يُؤَمِّلُوا لأنفسهم عند الخْلق قَدْراً، عَمَلُهُم لله لا يطلبون شيئاً من غير الله، فَمَنْ سَلكَ من العلماء سبيلَهم حُشِرَ في زمرتهم، ومَنْ أَخَذَ على صلاحِه مِنْ أحدٍ عِوَضَاً، أو اكتسب بسداده جاهاً لم يَرَ من الله إلا هواناً وصَغَاراً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: ما معنى قوله: {إنهم ملاقو ربهم}؟ قلت: معناه أنهم... على خلاف ذلك مما تقرفونهم به من بناء إيمانهم على بادئ الرأي من غير نظر وتفكر. وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرّف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون، ونحوه {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية [الأنعام: 52]، أو هم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة. {تَجْهَلُونَ}: تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وما أنا بطارد الذين آمنوا} يقتضي أنهم طلبوا منه طرد الضعفاء الذين بادروا إلى الإيمان به نظير ما اقترحت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرد أتباعه بمكة الذين لم يكونوا من قريش...
اعلم أن هذا هو الجواب عن الشبهة الثانية وهي قولهم: لا يتبعك إلا الأراذل من الناس. وتقرير هذا الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: أنا لا أطلب على تبليغ دعوة الرسالة مالا حتى يتفاوت الحال بسبب كون المستجيب فقيرا أو غنيا، وإنما أجري على هذه الطاعة الشاقة على رب العالمين، وإذا كان الأمر كذلك فسواء كانوا فقراء أو أغنياء لم يتفاوت الحال في ذلك.
الوجه الثاني: كأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم إنكم لما نظرتم إلى ظواهر الأمور وجدتموني فقيرا وظننتم أني إنما اشتغلت بهذه الحرفة لأتوسل بها إلى أخذ أموالكم، وهذا الظن منكم خطأ فإني لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا، إن أجري إلا على رب العالمين، فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد.
والوجه الثالث: في تقرير هذا الجواب أنهم قالوا: {ما نراك إلا بشرا مثلنا} إلى قوله: {وما نرى لكم علينا من فضل} فهو عليه السلام بين أنه تعالى أعطاه أنواعا كثيرة توجب فضله عليهم ولذلك لم يسع في طلب الدنيا، وإنما يسعى في طلب الدين، والإعراض عن الدنيا من أمهات الفضائل باتفاق الكل، فلعل المراد تقرير حصول الفضيلة من هذا الوجه...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
تلطف نوح عليه السلام بندائه بقوله: ويا قوم، استدراجاً لهم في قبول كلامه، كما تلطف إبراهيم عليه السلام بقوله «يا أبت... يا أبت» وكما تلطف مؤمن آل فرعون بقوله: « يا قوم... يا قوم» والضمير في عليه عائد إلى الإنذار. وإفراد الله بالعبادة المفهوم من قوله لهم: {إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله} وقيل: على الدين، وقيل: على الدعاء إلى التوحيد، وقيل: على تبليغ الرسالة. وكلها أقوال متقاربة، المعنى: إنكم وهؤلاء الذين اتبعونا سواء في أنّ أدعوكم إلى الله... ثم ذكر أنه قام بهؤلاء وصف يجب العكوف عليهم به والانضواء معهم، وهو الإيمان فلا يمكن طردهم، وكانوا سألوا منه طرد هؤلاء المؤمنين رفعاً لأنفسهم من مساواة أولئك الفقراء...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان نفي ذلك عاماً للفضل الدنيوي، وكان الاتصاف بقلة ما في اليد إنما يكون ضاراً إذا كان صاحبه يسأل غيره، نفى عنه هذا اللازم العائب فقال مجيباً عن نفيهم الفضل عنه وعن أتباعه بأنه قد يرد منهم على ذلك ثواباً دنيوياً: {ويا قوم} استعطافاً لهم {لا أسئلكم} أي في وقت من الأوقات {عليه} أي الإنذار كما يأخذ منكم من ينذركم أمر من يريد منكم من ينذركم أمر من يريد بكم بعض ما تكرهون في أمور دنياكم حتى تكون عاقبة ذلك أن تتهموني {مالاً إن} أي ما {أجري إلا على الله} أي الذي له الجلال والإكرام فبيده الخزائن كلها، ونبه بهذا على أنه لا غرض له من عرض دنيوي ينفر المدعو عنه فوجب تصديقه، وفيه تلقين للجواب عن قول قريش: لولا ألقي إليه كنز -كما سيأتي بأبين من ذلك عقب قصة يوسف عليه السلام في قوله: {وما تسئلهم عليه من أجر} لأن هذه القصص كالشيء الواحد متتابعة في بيان حقية هذا القرآن والتأسية في الاقتداء بالرسل في الصبر على أداء جميع الرسالة مع ما يلزم ذلك من جليل العبر وبديع الحكم، فلما اتحد الغرض منها مع تواليها اتحدت متفرقاتها. ولما كان التعبير برذالة المتبع مما ينفر أهل الدنيا عن ذلك التابع، بين لهم أن شأنه غير شأنهم وأنه رقيق على من آمن به رفيق به رحيم له وإن كان متأخراً في الدنيا محروماً منها خوفاً من الله الذي اتبعوه فيه فقال: {وما أنا} وأغرق في النفي بقوله: {بطارد الذين آمنوا} أي أقروا بألسنتهم بالإيمان؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم {إنهم ملاقوا ربهم} أي المحسن إليهم بعد إيجادهم وترتيبهم لهدايتهم، فلو طردتهم لشكوني إليه فلا أرى لكم وجهاً في الإشارة إلى طردهم ولا في شيء مما أجبتموني به {ولكني أراكم} أي أعلمكم علماً هو كالرؤية {قوماً تجهلون} أي تفعلون أفعال أهل الجهل فتكذبون الصادق وتعيرون المؤمنين بما لا يعيبهم وتنسون لقاء الله وتوقعون الأشياء في غير مواقعها، وفي تعبيره ب {تجهلون} دون {جاهلين} إشارة إلى أن الجهل متجدد لهم وهو غير عادتهم استعطافاً لهم إلى الحلم...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} الذي يُثيبني في الآخرة، وفي التعبير عنه حين نُسب إليهم بالمال ما لا يخفى من المزية... {إِنَّهُمْ ملاَقُو رَبّهِمْ} تعليلٌ لامتناعه عليه السلام عن طردهم أي إنهم فائزون في الآخرة بلقاء الله عز وجل كأنه قيل: لا أطرُدهم ولا أُبعِدُهم عن مجلسي لأنهم مقرَّبون في حضرة القدسِ، والتعرّضُ لوصف الربوبيةِ لتربية وجوبِ رعايتِهم وتحتّمِ الامتناعِ عن طردهم، أو مصدِّقون في الدنيا بلقاء ربِّهم موقنون به عالِمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطرُدهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ويا قوم لا أسألكم عليه مالا} أعاد نداءهم بقوله:"يا قوم" استعطافا وتكريرا للتذكير بأنه إنما يدعوهم لخيرهم ومصلحتهم، وصرح لهم بأنه لا يسألهم على ما دعاهم إليه مالا، فيكون متهما فيه عندهم لمكانة حب المال من أنفسهم، واعتزازهم به عليه وعلى الفقراء من أتباعه. والمال ما يملك ويقتني من نقد وماشية وغيرها، وعبر في سورة الشعراء بالأجر ويدل عليه هنا {إن أجري إلا على الله} أي ما أجري على تبليغه والقيام بأعبائه إلا على الله الذي أرسلني به، وكل رسول بعده أمر أن يبلغ قومه هذا، كما تراه في سورة الشعراء محكيا عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وتكرر مثله بأمره تعالى عن محمد رسول الله وخاتم النبيين، وما اتصل به من الاستثناء في قوله {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} [الشورى: 23] فهو –أي الاستثناء- منفصل معناه لكن أسألكم مودة أولي القربى لكم، وصلة الأرحام التي تبالغون فيها وتقاتلون لأجلها. فهذه الجملة دفع لشبهة أخرى على نبوة نوح كغيره لا بد أن تكون حاكت في صدور قومه وقد يكون بعضهم تكلم بها.
{وما أنا بطارد الذين آمنوا} أي وليس من شأني ولا بالذي يقع مني طرد الذين آمنوا من قربي وجواري لاحتقاركم لهم، ووصفكم إياهم بالأراذل جهلا منكم، فهذا رد على الشبهة الثانية في كلامهم بنفي لازمه وهو الطرد، وقد يكونون صرحوا بذكر هذا اللازم، وهذه سنة أكابر مجرمي الكفار من جميع أقوام المرسلين، بيّنها هنا وفي سورة الشعراء في قوم نوح أولهم، وتكرر معناها في قوم خاتمهم، ومنه في ذكر الطرد قوله تعالى في سورة الأنعام: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الأنعام: 52] الآية. وفي معناها قصة الأعمى في سورته.
{إنهم ملاقو ربهم} هذا تعليل مستأنف لنفي الطرد معناه أنه يلاقون ربهم يوم القيامة فهو يتولى حسابهم وجزاءهم، وليس على الرسول من هذا شيء، إن عليه إلا البلاغ، فليس يضركم ما هم عليه والله به وبهم {ولكني أراكم قوما تجهلون} أي تسفهون عليهم، من الجهالة المضادة للعقل والحلم، أو تجهلون ما يمتاز به البشر بعضهم على بعض من إتباع الحق والتحلي بالفضائل، وعمل البر والخير، وتظنون أن الامتياز إنما يكون بالمال المطغي، والجاه بالباطل المردي، وفي قصته من سورة الشعراء {قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين} [الشعراء: 110-115] وفي معنى ما هنا من أن حسابهم على الله تتمة الآية [6: 152] المشار إليها آنفا، وهو بمعنى قوله تعالى: {ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ويا قوم لا أسألكم عليه مالا، إن أجري إلا على الله، وما أنا بطارد الذين آمنوا، إنهم ملاقو ربهم، ولكني أراكم قوما تجهلون).
يا قوم إن الذين تدعونهم أراذل قد دعوتهم فآمنوا، وليس لي عند الناس إلا أن يؤمنوا. إنني لا أطلب مالا على الدعوة، حتى أكون حفيا بالأثرياء غير حفي بالفقراء؛ فالناس كلهم عندي سواء.. ومن يستغن عن مال الناس يتساو عنده الفقراء والأغنياء..
ونفهم من هذا الرد أنهم طلبوا أو لوحوا له بطردهم من حوله، حتى يفكروا هم في الإيمان به، لأنهم يستنكفون أن يلتقوا عنده بالأراذل، أو أن يكونوا وإياهم على طريق واحد! -لست بطاردهم، فهذا لا يكون مني. لقد آمنوا وأمرهم بعد ذلك إلى الله لا لي: إنهم ملاقوا ربهم.. (ولكني أراكم قوما تجهلون)..
تجهلون القيم الحقيقية التي يقدر بها الناس في ميزان الله. وتجهلون أن مرد الناس كلهم إلى الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {إن أجْري إلاّ على الله} احتراس لأنه لمّا نفى أن يسألهم مالاً، والمال أجر، نشأ توهّم أنه لا يسأل جَزاء على الدعوة فجاء بجملة {إن أجْري إلاّ على الله} احتراساً. والمخالفة بين العبارتين في قوله: {مالا} و {أجري} تفيد أنه لا يسأل من الله مالاً ولكنه يسأل ثواباً. والأجر: العوض على عمل. ويسمّى ثواب الله أجراً لأنّه جزاء على العمل الصالح. وعطف جملة {وما أنا بطارد الذين آمنوا} على جملة {لا أسألكم عليه مالاً} لأنّ مضمونها كالنتيجة لمضمون المعطوف عليها لأن نفي طمعه في المخاطبين يقتضي أنه لا يؤذي أتباعه لأجل إرضاء هؤلاء. ولذلك عبّر عن أتباعه بطريق الموصولية بقوله: {الذين آمنوا} لِما يؤذن به الموصول من تغليظ قومه في تعريضهم له بأن يُطردهم بما أنهم لا يجالسون أمثالهم إيذاناً بأن إيمانهم يوجب تفضيلهم على غيرهم الذين لم يؤمنوا به والرغبةَ فيهم فكيف يطردهم...
وجملة {إنهم ملاقوا ربهم} في موضع التعليل لنفي أن يطردهم... أراد أنهم يدعون ربهم في صلاتهم فينتصر الله لهم إذا كانت الملاقاة مجازية، أو أنهم ملاقو ربهم حين يحضرون مجلس دعوتي لأنّي أدعو إلى الله لا إلى شيء يخصّني فهم عند ملاقاتي كمن يلاقون ربّهم لأنهم يتلقون ما أوحى الله إليّ... وحذف مفعول {تجهلون} للعلم به، أي تجهلون ذلك. وزيادة قوله: {قوماً} يدل على أن جهلهم صفة لازمة لهم كأنها من مقومات قوميتهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
طمأنهم إلى أنه لا يسألهم مالا، والمال عنصر حياتهم المادية التي بها يستعلون وهو زخرف الحياة وزينتها، ولكن يسألهم الهداية، وأجره على الله وحده {إن أجري إلا على الله} (إن) نافية، لا أجر لي إلا عند الله فلا تحاولوا أن تنكروا الرسالة ما دمت لا تكلفكم مالا، بل تكلفكم إصغاء وإيمانا. ثم هم كانوا يطعنون في اتباعه ويغضون من مقامه عند الله ولا يرضون أن يكونوا صفا واحدا مع هؤلاء الأراذل في زعمهم المادي الفاسد، فيقول لهم قولا قاطعا حازما حاسما فيه شدة وقوة {وما أنا بطارد الذين آمنوا} لأني جئت للهداية لا للثروة والمال، وعبر بالموصول في كلمة {الذين آمنوا} لبيان سبب النفي، وهو كونهم آمنوا، فحققوا ما جئت به، فكيف أطردهم. وإن الاعتبار بحالهم وحالكم إنما يكون في الآخرة وليس في الدنيا، ولذا قال: {إنهم ملاقو ربهم} وعند لقاء ربهم الذي خلقهم ورباهم على تقوى منهم، فستكونون معهم وستعلمون أنهم أهدى سبيلا. ويتجه نوح إلى أن يصدع بالحق فيهم بعد هذا الرفق الكريم يقول: {ولكني أراكم قوما تجهلون}، وهذا الاستدراك من القول اللين العطوف إلى القول الحق الذي لا يخلو من عنف في لطف، أراكم قوما تجمعتم وتحزبتم وأنتم تجهلون الحقائق وتمارون بالباطل، انتقل من عذرهم بخفاء الأمور عليهم إلى رميهم بالجهل المستمر الذي يتجدد آنا بعد آن وقد استمروا عليه...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
واصل كتاب الله حكاية قصة نوح، فذكر ما رد به على استهزاء كبار قومه، الذين استهزأوا بأتباعه، وعيروهم بضعف الحال وقلة ذات اليد. وما دام الأمر في شأن الدعوة ليس أمر قوي وضعيف، وغني وفقير، وشريف ومشروف، وإنما هو أمر عقيدة واقتناع وإيمان، فإن من عرف الحق وتجلى له واضحا أقبل عليه واعتنقه، ومن عمي عنه أو تعامى استمر على الباطل والضلال –وهذا هو عين ما وقع لضعفاء قوم نوح، حيث رأوا دعوته جلية واضحة كفلق الصبح، فأسرعوا إلى الإيمان به وأصبحوا من جلسائه وصحبه – فلن يحتقرهم نوح كما يريد كبار قومه أن يكون، إذ هم أهل للتوقير لا للتحقير، ولن يطردهم نوح من مجلسه كما لوح إلى ذلك كبار قومه المتكبرون، إذ هم أهل للتقريب لا للإبعاد، بعدما آمنوا برب العباد، وعقب نوح على ادعاءات كبار قومه السخيفة بما يدمغهم "بالجهل "المنافي للعلم والمعرفة، و "بالجهالة" المنافية للمروءة وحسن الأدب... وفي هذا السياق نبه كتاب الله إلى أن نوحا حاول بكل الوسائل أن يزيل من أذهان كبار قومه ما تخيلوه، من أن غرضه من الدعوة التي يقوم بها غرض مادي صرف، وذلك ما حكاه عنه كتاب الله إذ قال لقومه: {ويا قوم لا أسألكم عليه مالا، إن أجري إلا على الله}. والملاحظ أن مثل هذه المقولة تتكرر في قصة كل نبي أو رسول، إما لأن أعداء الرسل يظنون أن في إمكانهم شراء كل الضمائر بثمن بخس، حتى يتنازل الرسل عن دعواتهم، وينصرفوا لحال سبيلهم، وإما لأن أعداء الرسل ينظرون إلى ما يكون عليه الرسل غالبا من الفقر والخصاصة والزهد، فيظنون بهم الظنون، ويخيل إليهم أنهم طلاب مال وغنى، وعشاق رفاهية ونفوذ، ولذلك يضطر الأنبياء والرسل إلى الرد على المترفين من قومهم بمثل هذا الرد القاطع الصريح، حفظا للدعوة من تسرب الأعداء إليها، وقطعا لكل أمل في قطع الطريق عليها...
مثل هذا القول بمعناه جاء مع كل رسول، ففي مواضع أخرى يقول الحق سبحانه: {قل لا أسألكم عليه أجرا} [الأنعام 90]: لأن العوض في التبادل قد لا يكون مالا، بل قد يكون تمرا، أو شعيرا أو قطنا أو غير ذلك، والأجر-كما نعلم- هو أعم من أن يكون مالا أو غير مال؛ لذلك يقول الحق سبحانه هنا: {لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله}: وهكذا نجد أن الحق سبحانه قد أغلى الأمر. وقول الرسول: {إن أجري إلا على الله}: هو قول يدل على أن الأمر الذي جاء به الرسول هو أمر نافع؛ لأن الأجرة لا تستحق إلا مقابل المنفعة. ونحن نعلم أن مبادلة الشيء بعينه أو ما يساويه؛ تسمى شراء، أما أن يأخذ الإنسان المنفعة من العين، وتظل العين ملكا لصاحبها، فمن يأخذ هذه المنفعة يدفع عنها إيجارا، فكأن نوحا عليه السلام يقول: لقد كنت أستحق أجرا لأنني أقدم لكم منفعة، لكنني لن آخذ منكم شيئا، لا زهدا في الأجر، ولكني أطمع في الأجر ممن هو أفضل منكم وأعظم وأكبر...
يقول الحق سبحانه في نهاية هذه الآية الكريمة على لسان نوح عليه السلام: {... ولكني أراكم قوما تجهلون}: أي: أنهم لا يفهمون مهمة نوح عليه السلام، وأنه مسؤول أمام ربه...