اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَٰقَوۡمِ لَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مَالًاۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۚ وَمَآ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْۚ إِنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَلَٰكِنِّيٓ أَرَىٰكُمۡ قَوۡمٗا تَجۡهَلُونَ} (29)

قوله تعالى : { ويا قوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً } .

الضَّمير في " عَلَيْهِ " يجوزُ أن يعود على الإنذار والمفهوم من " نَذِيرٌ " ، وأن يعودَ على الدِّين الذي هو الملَّة ، وأن يعود على التَّبليغ .

وهذا جوابٌ على الشُّبهةِ الثانية ، وهي قولهم : اتَّبَعَك الأرَاذل ، فقال : أنا لا أطلبُ على تبليغِ الرِّسالةِ مالاً حتَّى يتفاوت الحالُ بسبب كون المستجيب فقيراً ، أو غنياً ، وإنما أجري علَى هذه الطاعة على رب العالمين ، وإذا كان كذلك فسواء كان غنياً أو فقيراً ، لم يتفاوت الحال في ذلك .

ويحتمل أنَّه قال لهم : إنكم لمَّا نظرتم إلى هذه الأمور وجدتُمُوني فقيراً ، وظننتم أنِّي إنما أتيت بهذه الأمور لأتوسَّل بها إلى أخذ أموالكم ، وهذا الظَّن منكم خطأ ، وإنِّي لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجْراً ، { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 109 ] ، فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بهذا الظن الفاسد .

قوله : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين } قرئ{[18760]} " بطَاردٍ الذينَ " بتنوين " طارد " .

قال الزمخشري{[18761]} : على الأصل يعنى أنَّ أصل اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال العملُ وهو ظاهرُ قول سيبويه .

قال أبُو حيَّان : يُمكن أن يقال : ألأصل الإضافةُ لا العَمَلُ ، لأنَّهُ قد اعتورهُ شَبَهَان :

أحدهما : الشبه بالمضارع وهو شبهٌ بغير جنسه .

والآخر : شبههُ بالأسماءِ إذا كانت فيه الإضافةُ ؛ فكان إلحاقه بجنسه أولى .

وقوله : { إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } استئنافٌ يفيدُ التَّعليل ، وقوله : " تَجْهَلُون " صفةٌ لا بُدَّ منها إذ الإتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفته لا يفيدُ ، وأتى بها فعلاً ليدلَّ على التَّجدُّد كلَّ وقتٍ .

فصل

قوله : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا } كالدَّليل على أنَّ القوم سألوه لئلاَّ يشاركوا الفقراءَ ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ومَا أنَا بطارِدِ الذين آمنُوا " ، وأيضاً قولهم { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } كالدَّليل على أنَّهم طلبوا منه طردهم ؛ فكأنَّهم يقولون لو اتَّبَعَك الأشراف لوافقناهم .

ثمَّ ذكر ما يوجب الامتناع من طردهم ، وهو أنَّهم ملاقُو ربِّهم ، وهذا الكلامُ يحتملُ وجوهاً :

منها : أنَّهُم قالوا إنَّهم منافقون فيما أظهروا فلا تغترَّ بهم ؛ فأجاب بأنَّ هذا الأمر ينكشفُ عند لقاءِ ربِّهم في الآخرة .

ومنها : أنَّهُ جعله علَّة في الامتناع من الطَّرْدِ ، وأراد أنهم ملاقو ربِّهم ما وعدهم ، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة .

ومنها : أنَّهُ نَبَّه بذلك على أنَّا نجتمع في الآخرة ؛ فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني .

ثم بيَّن أنَّهم يَبْنُون أمرهُم على الجَهْلِ بالعواقب والاغترارِ بالظَّواهرِ فقال : { ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } .


[18760]:ينظر: الكشاف 2/390، والبحر المحيط 5/218، والدر المصون 4/95.
[18761]:ينظر: الكشاف 2/390.