29- محمد رسول الله وأصحابه الذين معه أشداء أقوياء على الكفار ، متراحمون ، متعاطفون فيما بينهم ، تُبصرهم راكعين ساجدين كثيرا ، يرجون بذلك ثوابا عظيما من الله ورضوانا عميما ، علامتهم خشوع ظاهر في وجوههم من أثر الصلاة كثيرا ، ذلك هو وصفهم العظيم في التوراة ، وصفتهم في الإنجيل كصفة زرع أخرج أول ما ينشق عنه ، فآزره ، فتحول من الدقة إلى الغلظ ، فاستقام على أصوله ، يُعجب الزراع بقوته ، وكان المؤمنون كذلك ، ليغيظ الله بقوتهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة تمحو جميع ذنوبهم ، وثوابا بالغا غاية العظم .
{ 29 } { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }
يخبر تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار ، أنهم بأكمل الصفات ، وأجل الأحوال ، وأنهم { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ } أي : جادون ومجتهدون في عداوتهم ، وساعون في ذلك بغاية جهدهم ، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة ، فلذلك ذل أعداؤهم لهم ، وانكسروا ، وقهرهم المسلمون ، { رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } أي : متحابون متراحمون متعاطفون ، كالجسد الواحد ، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه ، هذه معاملتهم مع الخلق ، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } أي : وصفهم كثرة الصلاة ، التي أجل أركانها الركوع والسجود .
{ يَبْتَغُونَ } بتلك العبادة { فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } أي : هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم ، والوصول إلى ثوابه .
{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } أي : قد أثرت العبادة -من كثرتها وحسنها- في وجوههم ، حتى استنارت ، لما استنارت بالصلاة بواطنهم ، استنارت [ بالجلال ] ظواهرهم .
{ ذَلِكَ } المذكور { مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } أي : هذا وصفهم الذي وصفهم الله به ، مذكور بالتوراة هكذا .
وأما مثلهم في الإنجيل ، فإنهم موصوفون بوصف آخر ، وأنهم في كمالهم وتعاونهم { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ } أي : أخرج فراخه ، فوازرته فراخه في الشباب والاستواء .
{ فَاسْتَغْلَظَ } ذلك الزرع أي : قوي وغلظ { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } جمع ساق ، { يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } من كماله واستوائه ، وحسنه واعتداله ، كذلك الصحابة رضي الله عنهم ، هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم ، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه ، وكون الصغير والمتأخر إسلامه ، قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه ، من إقامة دين الله والدعوة إليه ، كالزرع الذي أخرج شطأه ، فآزره فاستغلظ ، ولهذا قال : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم ، وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال ، ومعامع القتال .
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } فالصحابة رضي الله عنهم ، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، قد جمع الله لهم بين المغفرة ، التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة ، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة .
ولنسق قصة الحديبية بطولها ، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في { الهدي النبوي } فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة ، وتكلم على معانيها وأسرارها ، قال -رحمه الله تعالى : -
قال نافع : كانت سنة ست في ذي القعدة ، وهذا هو الصحيح ، وهو قول الزهري ، وقتادة ، وموسى بن عقبة ، ومحمد بن إسحاق وغيرهم .
وقال هشام بن عروة ، عن أبيه : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان ، وكانت في شوال ، وهذا وهم ، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان . قال أبو الأسود عن عروة : إنها كانت في ذي القعدة على الصواب .
وفي الصحيحين عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر ، كلهن في ذي القعدة ، فذكر منهن عمرة الحديبية ، وكان معه ألف وخمسمائة ، هكذا في الصحيحين عن جابر ، وعنه فيهما : كانوا ألفا وأربعمائة ، وفيهما ، عن عبد الله بن أبي أوفى : كنا ألفا وثلاثمائة ، قال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الجماعة الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال : خمس عشرة مائة ، قال : قلت : فإن جابر بن عبد الله قال : كانوا أربع عشرة مائة ، قال : يرحمه الله وهم ، وهو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة ، قلت : وقد صح عن جابر القولان ، وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية سبعين بدنة ، البدنة عن سبعة ، فقيل له : كم كنتم ؟ قال : ألفا وأربعمائة ، بخيلنا ورجلنا ، يعني : فارسهم وراجلهم .
والقلب إلى هذا أميل ، وهو قول البراء بن عازب ، ومعقل بن يسار ، وسلمة بن الأكوع ، في أصح الروايتين ، وقول المسيب بن حزن ، قال شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة ، وغلط غلطا بينا من قال : كانوا سبعمائة ، وعذره{[790]} أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنة ، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة أو عشرة ، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل ، فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه الغزوة عن سبعة ، فلو كانت السبعون عن جميعهم ، لكانوا أربعمائة وتسعين رجلا ، وقد قال بتمام الحديث بعينه ، أنهم كانوا ألفا وأربعمائة .
فلما كانوا بذي الحليفة ، قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة ، يخبره عن قريش ، حتى إذا كانوا قريبا من عسفان ، أتاه عينه ، فقال : إني قد تركت كعب بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت .
واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه : أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين ، وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله ، أم ترون أن نؤم البيت ؟ فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ قال أبو بكر : الله ورسوله أعلم ، إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فروحوا إذا " فراحوا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش ، فخذوا ذات اليمين " ، فوالله ما شعر بهم خالد ، حتى إذا هو بغبرة الجيش ، فانطلق يركض نذيرا لقريش .
وسار النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ، بركت راحلته ، فقال الناس : حل حل ، فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها " ثم زجرها ، فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية ، على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش .
فانتزع سهما من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه ، قال : فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنها ، وفزعت قريش لنزوله عليهم ، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه ، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم ، فقال : يا رسول الله ، ليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي ، إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان ، فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما أردت .
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ، فأرسله إلى قريش ، وقال : " أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، إنما جئنا عمارا ، وادعهم إلى الإسلام "
وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ، ونساء مؤمنات ، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان ، فانطلق عثمان ، فمر على قريش ببلدح ، فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام ، ونخبركم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عمارا ، قالوا : قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك .
وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص ، فرحب به ، وأسرج فرسه ، فحمل عثمان على الفرس ، فأجاره ، وأردفه أبان حتى جاء مكة ، وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان : خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون " فقالوا : وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص ؟ قال : " ذاك ظني به ، أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه " واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح ، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر ، وكانت معركة ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم ، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل ، فدعا إلى البيعة .
فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه ، وقال : " هذه عن عثمان " ولما تمت البيعة ، رجع عثمان ، فقال له المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت ، فقال : بئسما ظننتم بي ، والذي نفسي بيده ، لو مكثت بها سنة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، مقيم بالحديبية ، ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت ، فقال المسلمون : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أعلمنا بالله ، وأحسننا ظنا .
وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد ابن قيس ، وكان معقل بن يسار ، أخذ بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أول من بايعه ، أبو سنان الأسدي ، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات ، في أول الناس ، وأوسطهم ، وآخرهم .
فبينما هم كذلك ، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ، في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا أماددهم ويخلوا بيني وبين الناس ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن أبوا إلا القتال ، فوالذي نفسي بيده ، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره " قال بديل : سأبلغهم ما تقول .
فانطلق حتى أتى قريشا ، فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولا ، فإن شئتم عرضته عليكم ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي : منهم : هات ما سمعته ، قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد ، فاقبلوها ، ودعوني آته ، فقالوا : ائته ، فأتاه ، فجعل يكلمه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل ، فقال له عروة عند ذلك : أي : محمد ، أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فوالله إني لأرى وجوها ، وأرى أوباشا من الناس ، خليقا أن يفروا ويدعوك ، فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ قال : من ذا ؟ قال : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده ، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك .
وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه السيف ، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ، ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه ، وقال : من ذا ؟ قال : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي : غدر ، أولست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية ، فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء "
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوالله إن تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة ، إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها جلده ووجهه .
وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره ، وإذا توضأ ، كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر ، تعظيما له .
فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، على كسرى ، وقيصر ، والنجاشي ، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ، ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها .
فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته .
فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له " فبعثوها فاستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك ، قال : سبحان الله ، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت .
فرجع إلى أصحابه ، فقال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، وما أرى أن يصدوا عن البيت فقام مكرز بن حفص ، وقال : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف عليهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر " فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينا هو يكلمه ، إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد سهل لكم من أمركم " فقال : هات ، اكتب بيننا وبينك كتابا ، فدعا الكاتب ، فقال : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل : أما الرحمن ، فوالله ما ندري ما هو ، ولكن اكتب : " باسمك اللهم " كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اكتب باسمك اللهم "
ثم قال : " اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " فقال سهيل : فوالله لو نعلم أنك رسول الله ، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني رسول الله وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله " فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ، ولكن لك من العام المقبل ، فكتب .
فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل ، وإن كان على دينك ، إلا رددته علينا .
فقال المسلمون : سبحان الله ، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟
فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه ، أن ترده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نقض الكتاب بعد " فقال : فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأجزه لي " فقال : ما أنا بمجيزه ، فقال : " بلى فافعل " قال : ما أنا بفاعل ، قال مكرز : قد أجزناه .
فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما لقيت ؟ وكان قد عذب في الله عذابا شديدا .
قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ألست نبي الله ؟ قال : " بلى " قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ قال : " بلى " فقلت : علام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : " إني رسول الله ، وهو ناصري ، ولست أعصيه " قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ " قلت : لا ، قال : " فإنك آتيه ومطوف به "
قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ، وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت ، فوالله إنه لعلى الحق ، قال عمر : فعملت لذلك أعمالا .
فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوموا وانحروا ، ثم احلقوا " فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت : يا رسول الله أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلق لك ، فقام فخرج ، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك ، قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، ثم جاءت نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : { إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية ، والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع إلى المدينة .
وفي مرجعه أنزل الله عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } إلى آخرها ، فقال عمر : أفتح هو يا رسول الله ؟ فقال : " نعم " فقال الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟
فأنزل الله عز وجل : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ }
وهذا آخر تفسير سورة الفتح ولله الحمد والمنة
[ وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، نقلته من خط المفسر رحمه الله وعفا عنه ، وكان الفراغ من كتابته في 13 ذي الحجة 1345 وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين .
بقلم الفقير إلى ربه سليمان بن حمد العبد الله البسام . غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ]{[1]}
المجلد الثامن من تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان من به الله على عبده وابن عبده وابن أمته عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن سعدي .
والآن نجيء إلى ختام السورة . ختامها بتلك الصورة الوضيئة التي يرسمها القرآن لواقع صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبذلك الثناء الكريم على تلك الجماعة الفريدة السعيدة التي رضي الله عنها ، وبلغها رضاه فردا فردا :
( محمد رسول الله . والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا ، يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ، فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ، ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . .
إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع . صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة ، حالاتها الظاهرة والمضمرة . فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم )ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم : ( تراهم ركعا سجدا ) . . ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وهذه صفتهم فيها . . ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل . . ( كزرع أخرج شطأه )( فآزره ) . . ( فاستغلظ ) ( فاستوى على سوقه ) . ( يعجب الزراع ) . . : ( ليغيظ بهم الكفار ) . .
وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين : ( محمد رسول الله ) . . ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع .
والمؤمنون لهم حالات شتى . ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم ، ونقط الإرتكاز الأصيلة في هذه الحياة . وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة . . وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات ، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها . التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة .
إرادة التكريم واضحة ، وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) . . أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم ، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا . رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين . فهي الشدة لله والرحمة لله . وهي الحمية للعقيدة ، والسماحة للعقيدة . فليس لهم في أنفسهم شيء ، ولا لأنفسهم فيهم شيء . وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم ، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها . يشتدون على أعدائهم فيها ، ويلينون لإخوتهم فيها . وقد تجردوا من الأنانية ومن الهوى ، ومن الانفعال لغير الله ، والوشيجة التي تربطهم بالله .
وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم ، هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة : ( تراهم ركعا سجدا ) . . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم . ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة ، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ؛ فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم ، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا .
واللقطة الثالثة مثلها . ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة . كل ما يشغل بالهم ، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم ، هو فضل الله ورضوانه . ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به .
واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم ، ونضحها على سماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف . وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله : ( من أثر السجود ) . . فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة . واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها . فهو أثر هذا الخشوع . أثره في ملامح الوجه ، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة . ويحل مكانها التواضع النبيل ، والشفافية الصافية ، والوضاءة الهادئة ، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا .
وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة . إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ؛ ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة : ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى ، وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها .
( ومثلهم في الإنجيل ) . . وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه ، أنهم ( كزرع أخرج شطأه ) . . فهو زرع نام قوي ، يخرج فرخه من قوته وخصوبته . ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده . ( فآزره ) . أو أن العود آزر فرخه فشده . ( فاستغلظ )الزرع وضخمت ساقه وامتلأت . ( فاستوى على سوقه )لا معوجا ومنحنيا . ولكن مستقيما قويا سويا . .
هذه صورته في ذاته . فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع ، العارفين بالنامي منه والذابل . المثمر منه والبائر . فهو وقع البهجة والإعجاب : ( يعجب الزراع ) . وفي قراءة يعجب( الزارع ) . . وهو رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج . . وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس . فهو وقع الغيظ والكمد : ( ليغيظ بهم الكفار ) . . وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هي زرعة الله . أو زرعة رسوله ، وأنهم ستار للقدرة وأداة لإغاظة أعداء الله !
وهذا المثل كذلك ليس مستحدثا ، فهو ثابت في صفحة القدر . ومن ثم ورد ذكره قبل أن يجيء محمد ومن معه إلى هذه الأرض . ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون .
وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة . . صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . . فتثبت في صلب الوجود كله ، وتتجاوب بها أرجاؤه ، وهو يتسمع إليها من بارى ء الوجود . وتبقى نموذجا للأجيال ، تحاول أن تحققها ، لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات .
وفوق هذا التكريم كله ، وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . . وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة بعدما تقدم من صفتهم ، التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة .
مغفرة وأجر عظيم . . وذلك التكريم وحده حسبهم . وذلك الرضى وحده أجر عظيم . ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود ، والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ .
ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرنا أن أستشرف وجوه هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم . وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم . وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله ، وفي ميزان الله ، وفي كتاب الله . وأنظر إليهم وهم عائدون من الحديبية ، وقد نزلت هذه السورة ، وقد قرئت عليهم . وهم يعيشون فيها بأرواحهم وقلوبهم ومشاعرهم وسماتهم . وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسها هو في كيانه .
وأحاول أن أعيش معهم لحظات في هذا المهرجان العلوي الذي عاشوا فيه . . ولكن أنى لبشر لم يحضر هذا المهرجان أن يتذوقه . إلا من بعيد ? !
وقوله : مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِين مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يقول تعالى ذكره : محمد رسول الله وأتباعه من أصحابه الذين هم معه على دينه ، أشدّاء على الكفار ، غليظة عليهم قلوبهم ، قليلة بهم رحمتهم رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يقول : رقيقة قلوب بعضهم لبعض ، لينة أنفسهم لهم ، هينة عليهم لهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ألقى الله في قلوبهم الرحمة ، بعضهم لبعض تَرَاهُمْ رُكّعا سُجّدا يقول : تراهم ركعا أحيانا لله في صلاتهم سجدا أحيانا يبتغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ يقول : يلتمسون بركوعهم وسجودهم وشدّتهم على الكفار ورحمة بعضهم بعضا ، فضلاً من الله ، وذلك رحمته إياهم ، بأن يتفضل عليهم ، فيُدخلهم جنته وَرِضْوَانا يقول : وأن يرضى عنهم ربهم .
وقوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ أثَرِ السّجُودِ يقول : علامتهم في وجوههم من أثر السجود في صلاتهم . ثم اختلف أهل التأويل في السيما الذي عناه الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : ذلك علامة يجعلها الله في وجوه المؤمنين يوم القيامة ، يعرفون بها لما كان من سجودهم له في الدينا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد الله العتكي ، عن خالد الحنفي ، قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السجُودِ قال : يعرف ذلك يوم القيامة في وجوههم من أثر سجودهم في الدنيا ، وهو كقوله : تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النّعِيمِ .
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد ، قال : حدثنا أبي ، عن فضيل بن مروزق ، عن عطية ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : مواضع السجود من وجوههم يوم القيامة أشد وجوههم بياضا .
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا ابن فضيل ، عن فضيل ، عن عطية ، بنحوه .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن فضيل ، عن عطية ، بنحوه .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا فضيل ، عن عطية ، مثله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت شبيبا يقول عن مقاتل بن حيان ، قال : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : النور يوم القيامة .
حدثنا ابن سنان القزاز ، قال : حدثنا هارون بن إسماعيل ، قال : قال عليّ بن المبارك : سمعت غير واحد عن الحسن ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ منْ أثَرِ السّجُودِ قال : بياضا في وجوههم يوم القيامة .
وقال آخرون : بل ذلك سيما الإسلام وسَمْته وخشوعه ، وعنى بذلك أنه يرى من ذلك عليهم في الدنيا ذكر من قال ذلك :
حدثنا علي ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ قال : السّمُت الحَسَن .
قال : ثنا مجاهد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا الحسن بن عُمارة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : أما إنه ليس بالذي تَرَوْن ، ولكنه سيما الإسلام وسَحْنته وسَمْته وخشوعه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد سِيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : الخشوع والتواضع .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، مثله .
قال : ثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : الخشوع .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في هذه الآية سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : السّحنْة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : هو الخشوع ، فقلت : هو أثر السجود ، فقال : إنه يكون بين عينيه مثل ركبة العَنْز ، وهو كما شاء الله .
وقال آخرون : ذلك أثر يكون في وجوه المصلين ، مثل أثر السّهَر ، الذي يظهر في الوجه مثل الكَلَف والتهيج والصفرة ، وما أشبه ذلك مما يظهره السهر والتعب في الوجه ، ووجهوا التأويل في ذلك إلى أنه سيما في الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن سِيماهُمْ في وجُوُهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : الصفرة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : زعم الشيخ الذي كان يقصّ في عُسر ، وقرأ سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ فزعم أنه السّهَر يُرى في وجوههم .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يعقوب القُمّيّ ، عن حفص ، عن شَمِر بن عَطية ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ قال : تهيّج في الوجه من سهر الليل .
وقال آخرون : ذلك آثار ترى في الوجه من ثَرَى الأرض ، أو نَدَى الطّهّور . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حَوْثرة بن محمد المِنقري ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة وحدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير جميعا عن ثعلبة بن سهيل ، عن جعفر بن أبي المُغيرة ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : ثَرى الأرض ، ونَدى الطّهُور .
حدثنا ابن سنان القزّاز ، قال : حدثنا هارون بن إسماعيل ، قال : حدثنا عليّ بن المبارك ، قال : حدثنا مالك بن دينار ، قال : سمعت عكرِمة يقول : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : هو أثر التراب .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في وجوههم من أثر السجود ، ولم يخصّ ذلك على وقت دون وقت . وإذ كان ذلك كذلك ، فذلك على كلّ الأوقات ، فكان سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام ، وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته ، وآثار أداء فرائضه وتطوّعه ، وفي الاَخرة ما أخبر أنهم يعرفون به ، وذلك الغرّة في الوجه والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء ، وبياض الوجوه من أثر السجود . وبنحو الذي قلنا في معنى السيما قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ يقول : علامتهم أو أعلمتهم الصلاة .
وقوله : ذلكَ مَثَلَهُمْ فِي التّوْرَاةِ يقول : هذه الصفة التي وصفت لكم من صفة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذين معه صفتهم في التوراة .
وقوله : وَمَثَلُهُمْ في الإنجِيلِ كَزَرْع أخْرَجَ شَطْأَهُ يقول : وصفتهم في إنجيل عيسى صفة زرع أخرج شطأه ، وهو فراخه ، يقال منه : قد أشطأ الزرع : إذا فرّخ فهو يشطىء إشطاء ، وإنما مثلهم بالزرع المشطىء ، لأنهم ابتدأوا في الدخول في الإسلام ، وهم عدد قليلون ، ثم جعلوا يتزايدون ، ويدخل فيه الجماعة بعدهم ، ثم الجماعة بعد الجماعة ، حتى كثر عددهم ، كما يحدث في أصل الزرع الفرخ منه ، ثم الفرخ بعده حتى يكثر وينمى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أصحابه مثلهم ، يعني نعتهم مكتوبا في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق السموات والأرض .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفّارِ . . . إلى قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ ثم قال : وَمَثَلهُمْ في الإنجيل كَزَرْعَ أخْرَجَ شَطْأَهُ . . . الآية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ذلك مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ : أي هذا المثل في التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ فهذا مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنجيل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شطأَهُ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : سيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاة يعني السيما في الوجوه مثلهم في التوراة ، وليس بمَثَلهم في الإنجيل ، ثم قال عزّ وجلّ : وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ . . . الآية ، هذا مثلهم في الإنجيل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك في قول الله : مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ . . . الآية ، قال : هذا مثلهم في التوراة ، ومثل آخر في الإنجيل كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فآزَرَهُ الآية .
وقال آخرون : هذان المَثَلان في التوراة والإنجيل مثلهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ والإنجيل واحد .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : مثلهم في التوراة ، غير مثَلهم في الإنجيل ، وإن الخبر عن مَثلهم في التوراة متناهٍ عند قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وذلك أن القول لو كان كما قال مجاهد من أن مثلهم في التوراة والإنجيل واحد ، لكان التنزيل : ومثلهم في الإنجيل ، وكزرع أخرج شطأه ، فكان تمثيلهم بالزرع معطوفا على قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ حتى يكون ذلك خبرا عن أن ذلك مَثلهم في التوراة والإنجيل ، وفي مجيء الكلام بغير واو في قوله : كَزَرْعٍ دليل بَيّن على صحة ما قُلنا ، وأن قولهم وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ خبر مبتدأ عن صفتهم التي هي في الإنجيل دون ما في التوراة منها . وبنحو الذي قلنا في قوله أخْرَجَ شَطْأَهُ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، قال : بينا عبد الله يقرىء رجلاً عند غروب الشمس ، إذ مرّ بهذه الآية كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ قال : أنتم الزرع ، وقد دنا حصادكم .
قال : ثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن حُميد الطويل ، قال : قرأ أنس بن مالك : كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ قال : تدرون ما شطأه ؟ قال : نباته .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ قال : سنبله حين يتسلع نباته عن حباته .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ قال : هذا مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل ، قيل لهم : إنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، منهم قوم يأمرون بالمعروف ، وينهوّن عن المنكر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والزهريّ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قالا : أخرج نباته .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، يكونون قليلاً ، ثم يزدادون ويكثرون ويستغلظون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أولاده ، ثم كثرت أولاده .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قال : ما يخرج بجنب الحقلة فيتمّ وينمى .
وقوله : فآزرَهُ يقول : فقوّاه : أي قوّى الزرعَ شطأه وأعانه ، وهو من المؤازرة التي بمعنى المعاونة فاسْتَغْلَظَ يقول : فغلظ الزرع فاسْتَوَى على سُوقِهِ والسوق : جمع ساق ، وساق الزرع والشجر : حاملته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، فآزَرَهُ يقول : نباته مع التفافه حين يسنبل ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ فهو مثل ضربه لأهل الكتاب إذا خرج قوم ينبتون كما ينبت الزرع فيبلغ فيهم رجل يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ثم يغلظون ، فهم أولئك الذين كانوا معهم . وهو مَثل ضربه الله لمحمد صلى الله عليه وسلم يقول : بعث الله صلى الله عليه وسلم وحده ، ثم اجتمع إليه ناس قليل يؤمنون به ، ثم يكون القليل كثيرا ، ويستغلظون ، ويغيظ الله بهم الكفار .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله فآزَرَهُ قال : فشدّه وأعانه .
وقوله : عَلى سُوقِهِ قال : أصوله .
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والزهري فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظ فاسْتَوَى عَلى سُوقِهِ يقول : فتلاحق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فآزَرَهُ اجتمع ذلك فالتفّ قال : وكذلك المؤمنون خرجوا وهم قليل ضعفاء ، فلم يزل الله يزيد فيهم ، ويؤيدهم بالإسلام ، كما أيّد هذا الزرع بأولاده ، فآزره ، فكان مثلاً للمؤمنين .
حدثني عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فاسْتَوَى عَلى سُوقِهِ يقول : حبّ برّ نُثِرَ متفرّقا ، فتنبت كلّ حبة واحدة ، ثم أنبتت كلّ واحدة منها ، حتى استغلظ فاستوى على سوقه قال : يقول : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قليلاً ، ثم كثروا ، ثم استغلظوا لِيَغِيظَ الله بِهِمُ الكُفّارَ .
وقوله : يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ يقول تعالى ذكره : يعجب هذا الزرعُ الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه وحُسن نباته ، وبلوغه وانتهائه الذين زرعوه لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ يقول : فكذلك مَثل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، واجتماع عددهم حتى كثروا ونموا ، وغلظ أمرهم كهذا الزرع الذي وصف جلّ ثناؤه صفته ، ثم قال : لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارِ فدلّ ذلك على متروك من الكلام ، وهو أن الله تعالى فعل ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ يقول الله : مثلهم كمثل زرع أخرج شطأه فآزَره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، حتى بلغ أحسن النبات ، يُعْجِب الزرّاع من كثرته ، وحُسن نباته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يُعْجِبُ الزرّاع قال : يعجب الزرّاع حُسنه لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ بالمؤمنين ، لكثرتهم ، فهذا مثلهم في الإنجيل .
وقوله : وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وعَملُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وأجْرا عَظِيما يقول تعالى ذكره : وعد الله الذين صدّقوا الله ورسوله وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يقول : وعملوا بما أمرهم الله به من فرائضه التي أوجبها عليهم .
وقوله : مِنْهُمْ يعني : من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون فِي الإسلام بعد الزرع الذي وصف ربنا تبارك وتعالى صفته . والهاء والميم في قوله مِنْهُمْ عائدة على معنى الشطء لا على لفظه ، ولذلك جمع فقيل : «منهم » ، ولم يقل «منه » . وإنما جمع الشطء لأنه أريد به من يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة بعد الجماعة الذين وصف الله صفتهم بقوله : وَالّذِين مَعَهُ أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُم رُكّعا سُجّدا .
وقوله وَمَغْفِرَةً يعني : عفوا عما مضى من ذنوبهم ، وسيىء أعمالهم بحسنها . وقوله : وأجْرا عَظيما يعني : وثوابا جزيلاً ، وذلك الجنة .
{ محمد رسول الله } جملة مبينة للمشهود به ، ويجوز أن يكون { رسول الله } صفة و { محمد } خبر محذوف أو مبتدأ : { والذين معه } معطوف عليه وخبرهما { أشداء على الكفار رحماء بينهم } و{ أشداء } جمع شديد و { رحماء } جمع رحيم ، والمعنى أنهم يغلظون على من خالف دينهم ويتراحمون فيما بينهم كقوله : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } . { تراهم ركعا سجدا } لأنهم مشتغلون بالصلاة في أكثر أوقاتهم . { يبتغون فضلا من الله ورضوانا } الثواب والرضا . { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } يريد السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود ، فعلى من سامه إذا أعلمه وقد قرئت ممدودة و{ من أثر السجود } بيانها أو حال من المستكن في الجار . { ذلك } إشارة إلى الوصف المذكور . أو إشارة مبهمة يفسرها { كزرع } . { مثلهم في التوراة } صفتهم العجيبة الشأن المذكور فيها . { ومثلهم في الإنجيل } عطف عليه أي ذلك مثلهم في الكتابين وقوله : { كزرع } تمثيل مستأنف أو تفسير أو مبتدأ و{ كزرع } خبره . { أخرج شطأه } فراخه يقال أشطأ الزرع إذا فرخ ، وقرأ ابن كثير وابن عامر برواية ابن ذكوان { شطأه } بفتحات وهو لغة فيه ، وقرئ " شطاه " بتخفيف الهمزة و " شطاءه " بالمد و " شطه " بنقل حركة الهمزة وحذفها و " شطوه " بقلبها واوا . { فآزره } فقواه من المؤازرة وهي المعاونة أو من الإيزار وهي الإعانة وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان " فأزره " كأجره في آجره . { فاستغلظ } فصار من الدقة إلى الغلظ . { فاستوى على سوقه } فاستقام على قصبه جمع ساق ، وعن ابن كثير " سؤقه " بالهمزة . { يعجب الزراع } بكثافته وقوته وغلظه وحسن منظره ، وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة قلوا في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس . { ليغيظ بهم الكفار } علة لتشبيههم بالزرع في زكاته واستحكامه أو لقوله : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } فإن الكفار لما سمعوه غاظهم ذلك ومنهم للبيان .
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود } .
لما بيّن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه واطمأنت نفوس المؤمنين أعقب ذلك بتنويه شأن الرسول صلى الله عليه وسلم والثناء على المؤمنين الذين معه .
و { محمد } خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو محمد يعود هذا الضمير المحذوف على قوله : { رسوله } [ الفتح : 28 ] في الآية قبلها . وهذا من حذف المسند الذي وصفه السكاكي بالحذف الذي الاستعمال وارد على ترك المسند إليه وترك نظائره . قال التفتازاني في « المطول » « ومنه قولهم بعد أن يذكروا رجلاً : فتى من شأنه كذا وكذا ، وهو أن يذكروا الديار أو المنازل ربع كذا وكذا » . ومن أمثلة « المفتاح » لذاك قوله : ( فراجعهما ) أي العقل السليم والطبع المستقيم في مثل : قوله
سأشكر عمراً إن تراخَتْ منيتــي *** أيــاديَ لم تُمنن وإنْ هيَ جلّت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت{[388]}
وهذا المعنى هو الأظهر هنا إذ ليس المقصود إفادة أن محمداً رسول الله وإنما المقصود بيان رسول الله من هو بعد أن أجرى عليه من الأخبار من قوله : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] إلى قوله : { ليظهره على الدين كله } [ الفتح : 28 ] فيعتبر السامع كالمشتاق إلى بيان : مَنْ هذا المتحدث عنه بهذه الأخبار ؟ فيقال له : محمد رسول الله ، أي هو محمد رسول الله . وهذا من العناية والاهتمام بذكر مناقبه صلى الله عليه وسلم فتعتبر الجملةُ المحذوفُ مبتدؤها مستأنفةً استئنافاً بيانياً . وفيه وجوه أخر لا تخفى ، والأحسن منها هذا .
وفي هذا نداء على إبطال جحود المشركين رسالته حين امتنعوا من أن يكتب في صحيفة الصلح « هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله . وقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت » .
وقوله : { والذين معه } يجوز أن يكون مبتدأ و { أشداء } خبراً عنه وما بعده إخبار . والمقصود الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى { معه } : المصاحَبة الكاملة بالطاعة والتأييد كقوله تعالى : { وقال الله إني معكم } . والمراد : أصحابه كلهم لا خصوص أهل الحديبية .
وإن كانوا هم المقصود ابتداء فقد عُرفوا بصدق ما عاهدوا عليه الله ، ولذلك لما انهزم المسلمون يوم حنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب نادِ يا أصل السَّمُرة . ويجوز أن يكون { والذين معه } عطفاً على { رسولَه } من قوله : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } [ التوبة : 33 ] . والتقدير : وأرسل الذين معه ، أي أصحابه على أن المراد بالإرسال ما يشمل الإذن لهم بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : { إذ أرسلنا إليهم اثنين } [ يس : 14 ] الآية فإن المرسلين إلى أهل أنطاكية كانوا من الحواريين ، أمرهم عيسى بنشر الهدى والتوحيد .
فيكون الإرسال البعث له في قوله تعالى : { بعثنا عليكم عبادا لَنَا } وعلى هذا يكون { أرسلنا } في هذه الآية مستعملاً في حقيقته ومجازه .
و { أشداء } : جمع شديد ، وهو الموصوف بالشدة المعنوية وهي صلابة المعاملة وقساوتها ، قال تعالى في وصف النار { عليها ملائكة غلاظٌ شداد } [ التحريم : 6 ] .
والشدة على الكفار : هي الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم ، وهذا وصف مدح لأن المؤمنين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام فلا يليق بهم إلا إظهار الغضب لله والحب في الله والبغض في الله من الإيمان ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقوى المؤمنين إيماناً من أجْل إشراق أنوار النبوءة على قلوبهم فلا جرم أن يكونوا أشد على الكفار فإن بين نفوس الفريقين تمام المضادة وما كانت كراهيتهم للصلح مع الكفار يوم الحديبية ورغبتهم في قتل أسراهم الذين ثقفوهم يوم الحديبية وعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا من آثار شدتهم على الكفار ولم تكن لاحت لهم المصلحة الراجحة على القتال وعلى القتل التي آثرها النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك كان أكثرهم محاورة في إباء الصلح يومئذٍ أشد أشدّائهم على الكفار وهو عمر بن الخطاب وكان أفهمهم للمصلحة التي توخاها النبي صلى الله عليه وسلم في إبرام الصلح أبا بكر . وقد قال سهل بن حنيف يوم صفين : أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ، ولو نستطيع أن نرد على رسول الله فعله لرددناه . والله ورسوله أعلم .
ثم تكون أحكام الشدة على الكفار من وجوب وندب وإباحة وأحكام صحبتهم ومعاملتهم جارية على مختلف الأحوال ولعلماء الإسلام فيها مقال ، وقد تقدم كثير من ذلك في سورة آل عمران وفي سورة براءة . والشدة على الكفار اقتبسوها من شدة النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين قال تعالى { بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة : 128 ] .
وأما كونهم رحماء بينهم فذلك من رسوخ أخوة الإيمان بينهم في نفوسهم . وقد وردت أخبار أخوتهم وتراحمهم في مواضع كثيرة من القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفي الجمع لهم بين هاتين الخلتين المتضادتين الشدّةِ والرحمة إيماء إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم ، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد فلا تغلب على نفوسهم محمدة دون أخرى ولا يندفعون إلى العمل بالجبلة وعدم الرؤية . وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعِزّة على الكافرين } في سورة العقود ( 54 ) .
وفي تعليق رحماء } مع ظرف ( بين ) المفيد للمكان الداخل وسط ما يضاف هو إليه تنبيه على انبثاث التراحم فيهم جميعاً قال النبي صلى الله عليه وسلم « تجد المسلمين في توادِّهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى له جميع الجسد بالسهر والحمى »
والخطاب في { تراهم } لغير معين بل لكل من تتأتى رؤيته إياهم ، أي يراهم الرائي .
وإيثار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك ، أي تراهم كلما شئت أن تراهم ركعاً سجداً . وهذا ثناء عليهم بشدة إقبالهم على أفضل الأعمال المزكية للنفس ، وهي الصلوات مفروضُها ونافلتها وأنهم يتطلبون بذلك رضى الله ورضوانه . وفي سوق هذا في مساق الثناء إيماء إلى أن الله حقق لهم ما يبتغونه .
والسيما : العلامة ، وتقدم عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } في البقرة ( 273 ) وهذه سيما خاصة هي من أثر السجود .
واختلف في المراد من السيما التي وصفت بأنها { من أثر السجود } على ثلاثة أنحاء الأول : أنها أثر محسوس للسجود ، الثاني أنها من الأثر النفسي للسجود ، الثالث أنها أثر يظهر في وجوههم يوم القيامة . فبالأول فسر مالك بن أنس وعكرمة وأبو العالية قال مالك : السيما هي ما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود مثل ما تعلق بجبهة النبي صلى الله عليه وسلم من أثر الطين والماء لما وَكَف المسجد صبيحة إحدى وعشرين من رمضان . وقال السعيد وعكرمة : الأثر كالغدة يكون في جبهة الرجل .
وليس المراد أنهم يتكلفون حدوث ذلك في وجوههم ولكنه يحصل من غير قصد بسبب تكرر مباشرة الجبهة للأرض وبشرات الناس مختلفة في التأثر بذلك فلا حرج على من حصل له ذلك إذا لم يتكلفه ولم يقصد به رياء .
وقال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب .
وإلى النحو الثاني فسر الأعمش والحسن وعطاء والربيع ومجاهد عن ابن عباس وابن جزء والضحاك . فقال الأعمش : مَن كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار . وقريب منه عن عطاء والربيع بن سليمان . وقال ابن عباس : هو حسن السمت . وقال مجاهد : هو نور من الخشوع والتواضع . وقال الحسن والضحاك : بياض وصفرة وتهيج يعتري الوجوه من السهر . وإلى النحو الثالث فسر سعيد بن جبير أيضاً والزهري وابن عباس في رواية العوفي والحسن أيضاً وخالد الحنفي وعطية وشهر بن حوشب : أنها سِيما تكون لهم يوم القيامة ، وقالوا : هي بياض يكون في الوجه يوم القيامة كالقمر ليلة البدر يجعله الله كرامة لهم . وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله في قوله تعالى : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } [ الفتح : 29 ] : النور يوم القيامة ، قيل وسنده حسن وهو لا يقتضي تعطيل بقية الاحتمالات إذ كل ذلك من السيما المحمودة ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذَكر أعلاها .
وضمائر الغيبة في قوله : { تراهم } و { يبتغون } و { سيماهم في وجوههم } عائدة إلى { الذين معه } على الوجه الأول ، وإلى كل من { محمد رسول اللَّه والذين معه } على الوجه الثاني .
{ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التوراة } .
الإشارة ب { ذلك } إلى المذكور من صفات الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن السابق في الذكر بمنزلة الحاضر فيشار إليه بهذا الاعتبار فاسم الإشارة مبتدأ و { مثلهم } خبره .
والمَثل يطلق على الحالة العجيبة ، ويطلق على النظير ، أي المُشابه فإن كان هنا محمولاً على الحالة العجيبة فالمعنى : أن الصفات المذكورة هي حالهم الموصوف في « التوراة » . وقوله : { في التوراة } متعلق ب { مثلهم } أو حال منه . فيحتمل أن في « التوراة » وصف قوم سيأتون ووصفوا بهذه الصفات ، فبيّن الله بهذه الآية أن الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم هم المقصود بتلك الصفة العجيبة التي في « التوراة » ، أي أن « التوراة » قد جاءت فيها بشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم ووصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والذي وقفنا عليه في « التوراة » مما يصلح لتطبيق هذه الآية هو البشارة الرمزية التي في الإصحاح الثالث والثلاثين من « سفر التثنية » من قول موسى عليه السلام : « جاء الربُ من سينا وأشرقَ لهم من سَعير وتلألأ من جبل فاران ، وأتى من ربوات القُدُس وعن يمينه نار شريعة لهم فأحبّ الشعب جميع قديسيه وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك » فإن جبل فاران هو حِيال الحجاز . وقوله : « فأحب الشعب جميع قديسيه » يشير إليه قوله : { رحماءُ بينهم } [ الفتح : 29 ] ، وقد تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ما ينطبق على هذا من سورة الفتح وقوله : قديسيه يفيد معنى { تراهم رُكَّعا سُجَّدا } [ الفتح : 29 ] ومعنى { سِيماهم في وجوههم من أثر السجود } [ الفتح : 29 ] . وقوله في « التوراة » « جالسون عند قدمك » يفيد معنى قوله تعالى : { يبتغون فضلاً من الله ورضوانا } [ الحشر : 8 ] . ويكون قوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الوصف .
{ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع } .
ابتداء كلام مبتدأ . ويكون الوقف على قوله : { في التوراة } والتشبيه في قوله : { كزرع } خبره ، وهو المثَل . وهذا هو الظاهر من سياق الآية فيكون مشيراً إلى نحو قوله في « إنجيل متى » الإصحاح 13 فقرة 3 « هو ذا الزَارع قد خرج ليزرع يعني عيسى عليه السّلام وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فجاءت الطيور وأكلته » إلى أن قال « وسقط الآخر على الأرض الجيدة فأعطى ثمره بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين » . قال فقرة ، ثم قال : « وأما المزروع على الأرض الجيدة فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم ، وهو الذي يأتي بثَمر فيصنع بعضٌ مائةً وبعضٌ ستين وآخر ثلاثين » . وهذا يتضمن نماء الإيمان في قلوبهم وبأنهم يدعون الناس إلى الدين حتى يكثر المؤمنون كما تنبت الحبة مائة سنبلة وكما تنبت من النواة الشجرة العظيمة .
وفي قوله : { أخرج شطأه } استعارة الإخراج إلى تفرع الفراخ من الحبة لمشابهة التفرع بالخروج ومشابهة الأصل المتفرع عنه بالذي يخرج شيئاً من مكان .
والشطْءُ بهمزة في آخره وسكون الطاء : فراخ الزرع وفروع الحبّة .
ويقال : أشطأ الزرع ، إذا أخرج فروعا . وقرأه الجمهور بسكون الطاء وبالهمز وقرأه ابن كثير { شَطأه } بفتح الطاء بعدها ألف على تخفيف الهمزة ألفا .
و { آزره } قوّاه ، وهو من المؤازرة بالهمز وهي المعاونة وهو مشتق من اسم الإزار لأنه يشد ظهر المتّزر به ويعينه شدهُ على العمل والحَمل كذا قيل . والأظهر عندي عكس ذلك وهو أن يكون الإزار مشتقاً اسمه من : آزر ، لأن الاشتقاق من الأسماء الجامدة نادر لا يصار إلى ادعائه إلا إذا تعين . وصيغة المفاعلة في { آزره } مستعارة لقوة الفعل مثل قولهم : عافاك الله ، وقوله تعالى : { وبارك فيها } [ فصلت : 10 ] .
والضمير المرفوع في { آزره } للشطء ، والضمير المنصوب للزرع ، أي قوًى الشطء أصله .
وقرأ الجمهور { فآزره } . وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر { فأزَّره } بدون ألف بعد الهمزة والمعنى واحد .
ومعنى { استغلظ } غلظ غلظاً شديداً في نوعه ، فالسين والتاء للمبالغة مثل : استجاب . والضميران المرفوعان في { استغلظ } و { استوى } عائدان إلى الزرع .
والسُوق : جمع ساق على غير قياس لأن ساقا ليس بوصف وهو اسم على زِنة فَعَل بفتحتين . وقراءة الجميع { على سوقه } بالواو بعد الضمة . وقال ابن عطية : قرأ ابن كثير { سُؤقه } بالهمزة أي همزة ساكنة بعد السين المضمومة وهي لغة ضعيفة يهْمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر{[389]} :
وتنسب لقنبل عن ابن كثير ولم يذكرها المفسّرون ولم يذكرها في « حرز الأماني » وذكرها النوري في كتاب « غيث النفع » وكلامه غير واضح في صحة نسبة هذه القراءة إلى قنبل .
وساق الزرع والشجرة : الأصل الذي تخرج فيه السنبل والأغصان . ومعنى هذا التمثيل تشبيه حال بدء المسلمين ونمائهم حتى كثروا وذلك يتضمن تشبيه بدء دين الإسلام ضعيفاً وتقويه يوماً فيوماً حتى استحكم أمره وتغلب على أعدائه . وهذا التمثيل قابل لاعتبار تجزئة التشبيه في أجزائه بأن يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بالزارع كما مثل عيسى غلب الإسلام في الإنجيل ، ويشبه المؤمنون الأولون بحبات الزرع التي يبذرها في الأرض مثل : أبي بكر وخديجة وعلي وبلال وعمّار ، والشطْء : من أيدوا المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله وحده وانضم إليه نفر قليل ثم قواه الله بمن ضامن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزرّاع . وقوله : { يعجب الزراع } تحسين للمشبّه به ليفيد تحسين المشبه .
تعليل لما تضمنه تمثيلهم بالزرع الموصوف من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة لأن كونهم بتلك الحالة من تقدير الله لهم أن يكونوا عليها فمثل بأنه فعل ذلك ليغيظ بهم الكفار .
قال القرطبي : قال أبو عروة الزبيري{[390]} : كنا عند مالك بن أنس فذكروا عنده رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله فقرأ مالك هذه الآية { محمد رسول الله } إلى أن بلغ قوله : { ليغيظ بهم الكفار } فقال مالك : من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية .
وقلت : رحم الله مالك بن أنس ورضي عنه ما أدق استنباطه .
{ وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عظيما } .
أعقب تنويه شأنهم والثناء عليهم بوعدهم بالجزاء على ما اتصفوا به من الصفات التي لها الأثر المتين في نشر ونصر هذا الدين .
وقوله : { منهم } يجوز أن تكون ( من ) للبيان كقوله { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] وهو استعمال كثير ، ويجوز إبقاؤه على ظاهر المعنى من التبعيض لأنه وعد لكل من يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحاضر والمستقبل فيكون ذكر ( من ) تحذيراً وهو لا ينافي المغفرة لجميعهم لأن جميعهم آمنوا وعملوا الصالحات وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هم خيرة المؤمنين .