{ قَالُوا سُبْحَانَكَ } أي : ننزهك من الاعتراض منا عليك ، ومخالفة أمرك . { لَا عِلْمَ لَنَا } بوجه من الوجوه { إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } إياه ، فضلا منك وجودا ، { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } العليم الذي أحاط علما بكل شيء ، فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقال ذرة في السماوات والأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر .
الحكيم : من له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق ، ولا يشذ عنها مأمور ، فما خلق شيئا إلا لحكمة : ولا أمر بشيء إلا لحكمة ، والحكمة : وضع الشيء في موضعه اللائق به ، فأقروا ، واعترفوا بعلم الله وحكمته ، وقصورهم عن معرفة أدنى شيء ، واعترافهم بفضل الله عليهم ، وتعليمه إياهم ما لا يعلمون .
{ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاّ مَا عَلّمْتَنَآ إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته بالأوبة إليه ، وتسليم علم ما لم يعلموه له ، وتبريهم من أن يعلموا أو يعلم أحد شيئا إلا ما علمه تعالى ذكره .
وفي هذه الاَيات الثلاث العبرة لمن اعتبر ، والذكرى لمن اذّكر ، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، عما أودع الله جل ثناؤه آي هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن . وذلك أن الله جل ثناؤه احتجّ فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم على من كان بين ظهرانيه من يهود بني إسرائيل باطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن جل ثناؤه أطلع عليها من خلقه إلا خاصّا ، ولم يكن مدركا علمه إلا بالإنباء والإخبار ، لتتقرّر عندهم صحة نبوّته ، ويعلموا أن ما أتاهم به فمن عنده ، ودلّ فيها على أن كل مخبر خبرا عما قد كان أو عما هو كائن مما لم يكن ولم يأته به خبر ولم يوضع له على صحته برهان فمتقوّل ما يستوجب به من ربه العقوبة .
ألا ترى أن الله جل ذكره ردّ على ملائكته قيلهم : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قالَ إنّي أعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وعرّفهم أن قيل ذلك لم يكن جائزا لهم بما عرّفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الأسماء ، فقال : أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فلم يكن لهم مفزع إلا الإقرار بالعجز والتبرّي إليه أن يعلموا إلا ما علمهم بقولهم : سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاّ ما عَلمْتَنَا فكان في ذلك أوضح الدلالة وأبين الحجة على كذب مقالة كل من ادّعى شيئا من علوم الغيب من الحزاة والكهنة والقافة والمنجمة . وذكر بها الذين وصفنا أمرهم من أهل الكتاب سوالف نعمه على آبائهم ، وأياديه عند أسلافهم ، عند إنابتهم إليه ، وإقبالهم إلى طاعته مستعطفهم بذلك إلى الرشاد ، ومستعتبهم به إلى النجاة ، وحذّرهم بالإصرار والتمادي في البغي والضلال ، حلولَ العقاب بهم نظير ما أحلّ بعدوّه إبليس ، إذ تمادى في الغيّ والخسار .
قال : وأما تأويل قوله : سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاّ ما عَلمْتَنَا فهو كما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : قالوا : سُبْحانَكَ تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره ، تبنا إليك ، لا علم لنا إلا ما علمتنا : تبرّءوا منهم من علم الغيب ، إلا ما علمتنا كما علمت آدم . وسبحان مصدر لا تصرّف له ، ومعناه : نسبحك ، كأنهم قالوا : نسبحك تسبيحا ، وننزّهك تنزيها ، ونبرّئك من أن نعلم شيئا غير ما علمتنا .
القول في تأويل قوله تعالى : إنكَ أنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ .
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : أنك أنت يا ربنا العليم من غير تعليم بجميع ما قد كان وما وهو كائن ، والعالم للغيوب دون جميع خلقك . وذلك أنهم نفوا عن أنفسهم بقولهم : لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلّمْتَنَا أن يكون لهم علم إلا ما علمهم ربهم ، وأثبتوا ما نفوا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم : إنكَ أنْتَ العَلِيمُ يعنون بذلك العالم من غير تعليم ، إذ كان من سواك لا يعلم شيئا إلا بتعليم غيره إياه . والحكيم : هو ذو الحكمة . كما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، العليم : الذي قد كمل في علمه والحكيم : الذي قد كمل في حكمه .
وقد قيل : إن معنى الحكيم : الحاكم ، كما أن العليم بمعنى العالم ، والخبير بمعنى الخابر .
{ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } اعتراف بالعجز والقصور ، وإشعار بأن سؤالهم كان استفسارا ولم يكن اعتراضا ، وأنه قد بان لهم ما خفي عليهم من فضل الإنسان والحكمة في خلقه وإظهار لشكر نعمته بما عرفهم وكشف لهم ما اعتقل عليهم ، ومراعاة للأدب بتفويض العلم كله إليه . وسبحانك مصدر كغفران ولا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوبا بإضمار فعله ، كمعاذ الله . وقد أجري علما للتسبيح بمعنى التنزيه على الشذوذ في قوله : سبحان من علقمة الفاخر . وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار والجهل بحقيقة الحال ، ولذلك جعل مفتاح التوبة فقال موسى عليه السلام : { سبحانك تبت إليك } وقال يونس : { سبحانك إني كنت من الظالمين } .
{ إنك أنت العليم } الذي لا يخفى عليه خافية : { الحكيم } المحكم لمبدعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة . وأنت فصل ، وقيل : تأكيد للكاف كما في قولك : مررت بك أنت ، وإن لم يجز : مررت بأنت ، إذ التابع يسوغ فيه ما لا يسوغ في المتبوع ، ولذلك جاز : يا هذا الرجل ، ولم يجز : يا الرجل ، وقيل : مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر إن .
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 32 )
{ قالوا } : ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا : { سبحانك } حكاه النقاش . قال : ولو لم يشترط عليهم الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له «كم لبثت ؟ » ولم يشترط عليه الإصابة . فقال ، ولم يصب فلم يعنف .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا كله محتمل .
وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال : معنى { إن كنتم } «إذ كنتم » .
قال الطبري : وهذا خطأ . وإن قال قائل ما الحكمة في قول الله تعالى للملائكة { إني جاعل } الآية ، قيل : هذا منه امتحان لهم واختبار ليقع منهم ما وقع ويؤدبهم تعالى من تعليم آدم وتكريمه بما أدب( {[446]} ) .
و { سبحانك } معناه : تنزيهاً لك وتبرئة أن يعلم أحد من علمك إلا ما علمته ، و { سبحانك } نصب على المصدر .
وقال الكسائي : «نصبه على أنه منادى مضاف »( {[447]} ) .
قال الزهراوي : موضع { ما } من قولهم { ما علمتنا } نصب ب { علمتنا }( {[448]} ) ، وخبر التبرئة في { لنا } ، ويحتمل أن يكون موضع { ما } رفعاً على أنه بدل من خبر التبرئة ، كما تقول لا إله إلا الله أي لا إله في الوجود إلا الله ، و { أنت } في موضع نصب تأكيد للضمير في { إنك } ، أو في موضع رفع على الابتداء .
و { العليم } خبره ، والجملة خبر «إن » ، أو فاصلة لا موضع لها من الإعراب . و { العليم } معناه : العالم ، ويزيد عليه معنى من المبالغة والتكثير من المعلومات في حق الله عز وجل .
و { الحكيم } معناه الحاكم ، وبينهما مزية المبالغة ، وقيل : معناه المحكم كما قال عمرو بن معديكرب : [ الوافر ] .
أمن ريحانة الداعي السميع . . . أي المسمع ، ويجيء { الحكيم } على هذا من صفات الفعل .
وقال قوم : { الحكيم } المانع من الفساد ، ومنه حكمة الفرس ما نعته( {[449]} ) ، ومنه قول جرير : [ الكامل ] .
أبني حنيفةَ أحكمُوا سفهاءكُمْ . . . إني أخافُ عليكمُ أن أغضبا
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 31 )
جرد { قالوا } من الفاء لأنه محاورة كما تقدم عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] وافتتاح كلامهم بالتسبيح وقوف في مقام الأدب والتعظيم لذي العظمة المطلقة ، وسبحان اسم التسبيح وقد تقدم عند قوله : { ونحن نسبح بحمدك } [ البقرة : 30 ] وهو اسم مصدر سَبَّحَ المضاعف وليس مصدراً لأنه لم يجىء على أبنية مصادر الرباعي وقيل هو مصدر سَبَحَ مخففاً بمعنى نزه فيكون كالغفران والشكران ، والكفران من غفر وشكر وكفر وقد كثر استعماله منصوباً على المفعولية المطلقة بإضمار فعله ك { معاذ الله } [ يوسف : 23 ] وقد يخرج عن ذلك نادراً قال : « سبحانك اللهم ذا السبحان » وكأنهم لما خصصوه في الاستعمال بجعله كالعلم على التنزيه عدلوا عن قياس اشتقاقه فصار سبحان كالعلم الجنسي مثل برة وفجار بكسر الراء في قول النابغة :
* فحملتُ برّة واحتملتُ فجارِ *
ومنعوه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون قال سيبويه : وأما ترك تنوين ( سبحان ) فلأنه صار عندهم معرفة وقول الملائكة : { لا علم لنا إلا ما علمتنا } خبر مراد منه الاعتراف بالعجز لا الإخبار عن حالهم لأنهم يوقنون أن الله يعلم ما تضمنه كلامهم . ولا أنهم قصدوا لازم الفائدة وهي أن المخبر عالم بالخبر فتعين أن الخبر مستعمل في الاعتراف .
ثم إن كلامهم هذا يدل على أن علومهم محدودة غير قابلة للزيادة فهي مقصورة على ما ألهمهم الله تعالى وما يأمرهم ، فللملائكة علم قبول المعاني لا علم استنباطها .
وفي تصدير كلامهم بسبحانك إيماء إلى الاعتذار عن مراجعتهم بقولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] فهو افتتاح من قبيل براعة الاستهلال عن الاعتذار . والاعتذار وإن كان يحصل بقولهم : { لا علم لنا إلا ما علمتنا } لكن حصول ذلك منه بطريق الكناية دون التصريح ويحصل آخراً لا ابتداء فكان افتتاح كلامهم بالتنزيه تعجيلاً بما يدل على ملازمة جانب الأدب العظيم { إنك أنت العليم الحكيم } ساقوه مساق التعليل لقولهم { لا علم لنا إلا ما علمتنا } لأن المحيط علمه بكل شيء المحكم لكل خلق إذا لم يجعل لبعض مخلوقاته سبيلاً إلى علم شيء لم يكن لهم قبل بعلمه إذ الحصول بقدر القبول والاستعداد أي فلا مطمع لنا في تجاوز العلم إلى ما لم تهيىء لنا علمه بحسب فطرتنا . والذي دل على أن هذا القول مسوق للتعليل وليس مجرد ثناء هو تصديره بإن في غير مقام رد إنكار ولا تردد .
قال الشيخ في « دلائل الإعجاز »{[109]} :