إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (32)

{ قَالُواْ } استئنافٌ واقعٌ موقعَ الجواب كأنه قيل : فماذا قالوا حينئذ ، هل خرجوا عن عُهدة ما كُلفوه أو لا ؟ فقيل : قالوا { سبحانك } قيل : هو علمٌ للتسبيح ولا يكاد يستعملُ إلا مضافاً وقد جاءَ غيرَ مضافٍ على الشذوذِ غيرَ منصرفٍ للتعريف والألفِ والنون المزيدتين كما في قوله : [ السريع ]

[ أقول لما جاءني فخره ] *** سُبحانَ مِنْ علقمَةَ الفاخرِ{[53]}

وأما في قوله : [ البسيط ]

سبحانه ثم سُبحاناً نعوذ له *** [ وقبلنا سبح الجودي والجمد{[54]} ]

فقيل : صَرَفه للضرورة ، وقيل : إنه مصدر منكرٌ كغفران ، لا اسمُ مصدر ، ومعناه على الأول نسبحك عما لا يليق بشأنك الأقدسِ من الأمور التي من جملتها خلوُّ أفعالِك من الحِكَم والمصالحِ وعنَوا بذلك تسبيحاً ناشئاً عن كمال طُمَأنينة النفسِ والإيمان باشتمال استخلاف آدمَ عليه السلام على الحِكَم البالغة ، وعلى الثاني تنزهّتَ عن ذلك ناشئاً عن ذاتِك ، وأرادوا به أنهم قالوه عن إذعان لمّا علِموا إجمالاً بأنه عليه السلام يُكلَّف ما كُلِّفوه ، وأنه يقدِر على ما قد عجزوا عنه مما يتوقف عليه الخلافة ، وقوله عز وعلا : { لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } اعتراف منهم بالعجز عما كُلِّفوه ، إذ معناه لا علم لنا إلا ما علمتناه بحسب قابليتِنا من العلوم المناسبة لعالمنا ولا قُدرة بنا على ما هو خارج عن دائرة استعدادِنا حتى لو كنا مستعدّين لذلك لأفَضْتَه علينا ، و( ما ) في ما علمتنا موصولةٌ حذف من صلتها عائدُها أو مصدرية ، ولقد نفَوْا عنهم العلمَ بالأسماء على وجه المبالغة حتى لم يقتصِروا على بيان عدمِه بأن قالوا مثلاً لا علم لنا بها ، بل جعلوه من جُملة ما لا يعلمونه ، وأشعروا بأن كونَه من تلك الجملة غنيٌّ عن البيان { إِنَّكَ أَنتَ العليم } الذي لا يخفى عليه خافية ، وهذا إشارةٌ إلى تحقيقهم لقوله تعالى : { إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة ، الآية 30 ] { الحكيم } أي المحكِمُ لمصنوعاته الفاعلُ لها حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحة وهو خبرٌ بعد خبر ، أو صفةٌ للأول ، و( أنت ) ضميرُ الفصل لا محل له من الإعراب ، أو له محل منه مشارِكٌ لما قبله كما قاله الفرّاء ، أو لما بعده كما قاله الكسائي ، وقيل : تأكيد للكاف كما في قولك : مررتُ بك أنت ، وقيل : مبتدأ خبرُه ما بعده ، والجملة خبر إن ، وتلك الجملةُ تعليلٌ لما سبق من قصر علمِهم بما علّمهم الله تعالى وما يفهم من ذلك من علم آدمَ عليه السلام بما خفيَ عليهم ، فكأنهم قالوا أنت العالمُ بكل المعلوماتِ التي من جملتها استعدادُ آدمَ عليه السلام لما نحن بمعزلٍ من الاستعداد له من العلوم الخفيةِ المتعلقةِ بما في الأرضِ من أنواع المخلوقات التي عليها يدور فَلَكُ خلافةِ الحكيمِ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحِكمةُ ومن جملته تعليمُ آدمَ عليه السلام ما هو قابلٌ له من العلوم الكليةِ والمعارفِ الجزئيةِ المتعلقة بالأحكام الواردةِ على ما في الأرض ، وبناءُ أمرِ الخلافةِ عليها .


[53]:وهو للأعشى في ديوانه ص 193 وأساس البلاغة ص 200 (سبح) وخزانة الأدب 1/185؛ 7/234، 235، 238 وشرح المفصل 1/37، 120 ولسان العرب 2/471 (سبح) وبلا نسبة في خزانة الأدب 3/388؛ 6/286 والخصائص 2/197، 3/23 والدرر 5/42 والشاهد فيه نصب "سبحان" على المصدر ولزومها للنصب لأنها مصدر جامد وقد منعت من الصرف لأنها علم للتسبيح فجرت مجرى عثمان الممنوع من الصرف لزيادة الألف والنون وقيل: الشاهد فيه أن "سبحان" قد بقيت بدون تنوين لأنها مضافة إلى مضاف محذوف والمضاف قد يبقى بعد حذف المضاف إليه بلا تنوين.
[54]:وهو لورقة بن نوفل في الأغاني 3/115 ولأمية بن الصلت في ديوانه ص 30 ولسان العرب 2/471 ولزيد بن عمرو بن نفيل في شرح أبيات سيبويه 1/194 وبلا نسبة في شرح المفصل 1/37، 120، 4/36 وقد ورد في المعجم بلفظ "يعود له" محل "نعوذ به".