اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (32)

" سبحان " : اسم مصدر ، وهو التسبيح ، وقيل : بل هو مصدر ؛ لأنه سمع له فعلٌ ثلاثيٌّ ، وهو من الأسماء اللاَّزمة للإضافة ، وقد يفرد ، وإذا أفرد ، منع الصَّرف للتعريف ، وزيادة الألف والنون ؛ كقوله : [ السريع ]

أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ *** سُبْحَان . . . . . . . . . . . . . . . {[1081]}

وَقَدْ جَاءَ مُنَوَّناً كقوله : [ البسيط ]

سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ *** وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجُمُدُ{[1082]}

فقيل : صرف ضرورة .

وقيل : هو بمنزلة " قَبْلُ " و " بعدُ " إن نوي تعريفه بقي على حاله ، وإن نكر أعرب منصرفاً ، وهذا البيت يساعد على كونه مصدراً لا اسم مصدر ، لوروده منصرفاً .

ولقائل القول الأول أن يجيب عنه بأن هذا نكرة لا معرفة ، وهو من الأسماء اللازمة النصب على المصدرية ، فلا ينصرف والناصب له فعل مقدر لا يجوز إظْهَاره ، وقد روي عن الكَسائِيّ أنه جعله مُنَادى تقديره : يا سُبْحَانك ومنعه جمهور النحويين وإضافته - هُنَا - إلى المفعول ؛ لأن المعنى : نسبحك نحن .

وقيل : بل إضافته للفاعل ، والمعنى تنزّهت وتباعدت من السُّوء .

وسبحانك العامل فيه في مَحَلّ نصب بالقول .

قوله : { لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } و " إلاّ " حرف استثناء ، و " ما " موصولة ، و " علمتنا " صلتها ، وعائدها محذوف ، على أن يكون " علم " بمعنى " معلوم " ، ويجوز أن تكون مصدرية ، وهي في محلّ نصب على الاستثناء ، ولا يجوز أن تكون منصوبةً بالعلم الذي هو اسم " لا " ؛ لأنه إذا عمل كان معرباً .

وقيل : في محلّ رفع على البَدَلِ من اسم " لا " على الموضع .

وقال ابن عطية : هو بدلٌ من خبر التبرئة كقولهم : " لا إله إلا الله " ، وفيه نظر ؛ لأن الاستثناء إنَّمَا هو من المحكوم عليه بقيد الحكم لا من المحكوم به .

ونقل هو عن " الزّهراوي " : أن " ما " منصوبةٌ ب " علمتنا " بعدها ، وهذا غير معقول ؛ لأنه كيف ينتصب الموصول بصلته وتعمل فيه ؟

قال أبو حيان : إلاّ أن يتكلّف له وجه بعيد ، وهو أن يكون استثناء منقطعاً بمعنى لكن ، وتكون " ما " شرطية ، و " علمتنا " ناصب لها ، وهو في محل جزم بها ، والجواب محذوف ، والتقدير : " لكن ما علمتنا علمناه " .

قوله : { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } .

فصل

الضمير يحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون تأكيداً لاسم " إنَّ " فيكون منصوب المحل ، وأن يكون مبتدأ ، وخبره ما بعده ، والجملة خبر " إنَّ " ، وأن يكون فصلاً ، وفيه الخلاف المشهور .

وهل له محل من الإعراب أم لا ؟

وإذا قيل : إن له محلاًّ ، فهل بإعراب ما قبله كما قال الفراء{[1083]} ، فيكون في محل نصب ، أو بإعراب ما بعده فيكون في محل رفع كقول الكسائي ؟

قوله : " الحكيم " خير ثانٍ أو صفة " العليم " ، وهما " فعيل " بمعنى " فاعل " وفيهما من المُبالَغة ما ليس فيه .

و " الحكيم " لغة : الإتقان ، والمنع من الخروج عن الإرادة ، ومنه حَكَمَةُ الدابة ؛ وقال جَرِيرٌ : [ الكامل ]

أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ *** إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا{[1084]}

وقدم " العليم " على " الحكيم " ؛ لأنه هو المتّصل به في قوله : " وعلم " ، وقوله : " لا عِلْمَ لنا " فناسب اتصاله به ؛ ولأن الحِكْمَةَ ناشئةٌ عن العلم وأثر له ، وكثيراً ما تقدّم صفة العلم عليها .

والحكيم صفةُ ذاتٍ إن فسر بذي الحِكْمَةِ ، وصفة فعل إن فسر بأنه المحكم لصنعته فكأن الملائكة قالت : أنت العالم بكل المعلومات ، فأمكنك تعليم آدم ، وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه .

وعن " ابن عباس " أن مراد الملائكة من " الحكيم " أنه هو الذي حكم بجعل آدم - عليه الصلاة والسلام - خليفةً في الأرض{[1085]} .

فصل

احتج أَهْلُ الإسلام بهذه الآية على أنه لا سَبِيْلَ إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله - تعالى - وأنه لا يمكن التوصُّل إليها بعلم النجوم والكهانة ، ونظيره قوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] وقوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً } [ الجن : 26 ] .


[1081]:- تقدم برقم (365).
[1082]:- ينظر ديوان أمية بن أبي الصلت: (30)، الخزانة: (20/37)، الشجري: (1/348)، الدرر: (1/163)، المقتضب: (3/217)، ابن يعيش: (1/37، 120) (4/36)، الهمع: (1/1890)، الدر المصون: (1/183).
[1083]:- ينظر معاني القرآن: 1/148، 2/238.
[1084]:- ينظر ديوانه: (50)، الكشاف: (4/336)، اللسان: حكم، الدر المصون: (1/184).
[1085]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (1/675) والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 78. وأورده الشوكاني في "فتح القدير" (1/65) وعزاه لابن جرير.