البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (32)

سبحانك : معناه تنزيهك ، وسبحان اسم وضع موضع المصدر ، وهو مما ينتصب بإضمار فعل من معناه لا يجوز إظهاره ، وهو من الأسماء التي لزمت النصب على المصدرية ، ويضاف ويفرد ، فإذا أفرد كان منوناً ، نحو قول الشاعر :

سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به *** وقبلنا سبح الجودي والجمد

فقيل : صرفه ضرورة ، وقيل : لجعله نكرة غير منون ، نحو قول الشاعر :

أقول لما جاءني فخبره *** سبحان من علقمة الفاخر

جعله علماً فمنعه الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون .

وزعم بعض النحويين أنه إذا أفرد كان مقطوعاً عن الإضافة ، فعاد إليه التنوين ، ومن لم ينونه جعله بمنزلة قبل وبعد ، وقد ردّ هذا القول في كتب النحو .

الحكيم : فعيل بمعنى مفعل ، من أحكم الشيء : أتقنه ومنعه من الخروج عما يريده .

{ قالوا سبحانك لا علم لنا } : أي تنزيهك عن الادعاء وعن الاعتراض .

وقيل : معناه تنزيه لك بعد تنزيه لفظه لفظ تثنية ، والمعنى كذلك كما قالوا في لبيك ، ومعناه : تلبية بعد تلبية .

وهذا قول غريب يلزم عنه أن مفرده يكون سبحا ، وأنه لا يكون منصوباً بل مرفوعاً ، وأنه لم تسقط النون للإضافة ، وأنه التزم فتحها .

والكاف في سبحانك مفعول به أضيف إليه .

وأجاز بعضهم أن يكون فاعلاً ، لأن المعنى تنزهت .

وقد ذكرنا ، حين تكلمنا على المفردات ، أنه منصوب على معنى المصدر بفعل من معناه واجب الحذف .

وزعم الكسائي أنه منادي مضاف ، ويبطله أنه لا يحفظ دخول حرف النداء عليه ، ولو كان منادى لجاز دخول حول حرف النداء عليه ، ونقل لنا .

ولما سأل تعالى الملائكة ، ولم يكن عندهم علم بالجواب ، وكانوا قد سبق منهم قولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } الآية ، أرادوا أن يجيبوا بعدم العلم إلا ما علمهم ، فقدموا بين يدي الجواب تنزيه الله اعتذاراً وأدباً منهم في الجواب ، وإشعاراً بأن ما صدر منهم قبل يمحوه هذا التنزيه لله تعالى ، فقالوا : سبحانك ، ثم أجابوا بنفي العلم بلفظ لا التي بنيت معها النكرة ، فاستغرق كل فرد من أنواع العلوم ، ثم استثنوا من ذلك ما علمهم هو تعالى ، فقالوا : { إلا ما علمتنا } ، وهذا غاية في ترك الدعوى والاستسلام التام للمعلم الأول الله تعالى .

قال أبو عثمان المغربي : ما بلاء الخلق إلا الدعاوى .

ألا ترى أن الملائكة لما قالوا : ونحن نسبح بحمدك ، كيف ردوا إلى الجهل حتى قالوا : لا علم لنا ؟ وروي معنى هذا الكلام عن جعفر الصادق ، وخبر : لا علم ، في الجار والمجرور .

وتقدم لنا الكلام في لا ريب فيه ، ولا علم مثله ، فأغنى عن إعادته .

وما موصولة يحتمل أن تكون في موضع نصب على الاستثناء ، والأولى أن تكون في موضع رفع على البدل .

وحكى ابن عطية عن الزهراوي : أن موضع ما من قولهم : ما علمتنا ، نصب بعلمتنا ، وهذا غير معقول .

ألا ترى أن ما موصولة ، وأن الصلة : علمتنا ، وأن الصلة لا تعمل في الموصول ولكن يتكلف له وجه وهو أن يكون استثناء منقطعاً فيكون معنى إلا : لكن ، على التقدير الذي استقر في الاستثناء المنقطع ، وتكون ما شرطية منصوبة بعلمتنا ، ويكون الجواب محذوفاً كأنهم نفوا أولاً سائر العلوم ثم استدركوا أنه في المستقبل ، أي شيء علمهم علموه ، ويكون هذا أبلغ في ترك الدعوى ، إذ محوا أنفسهم من سائر العلوم ونفوا جميعها ، فلم يستثنوا لهم شيئاً سابقاً ماضياً تحلوا به ، بل صاروا إلى الجهل الصرف والتبري من كل علم .

وهذا الوجه ينافي ما روي أنه كان أعلمهم تعالى ، أو علموا باطلاع من اللوح بأنه سيكون في الأرض من يفسد ويسفك ، فإذا صح هذا كانوا قد بالغوا في نفي كل علم عنهم ، وجعلوا هذا العلم الخاص كالمعدوم ، ومن اعتقد أن الملائكة غير معصومين جعل قولهم ، لا علم لنا توبة ، ومن اعتقد بعصمتهم قال : قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز والتسليم بأنهم لا يعلمون إلا ما علموا ، أو قالوا : { أتجعل فيها } الآية ، لأنه أعلمهم بذلك ، وأما الأسماء فكيف يعلمونها وما أعلمهم ذلك ؟ ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه لله تعالى على أكمل أوصافه من المبالغة فيه ، ثم أردفوا الوصف بالعلم ، الوصف بالحكمة ، لأنه سبق قوله : { إني جاعل في الأرض خليفة } .

فلما صدر من هذا المجعول خليفة ، ما صدر من فضيلة العلم تبين لهم وجه الحكمة في قوله : وجعله خليفة .

فانظر إلى حسن هذا الجواب كيف قدموا بين يديه تنزيه الله ، ثم اعترفوا بالجهل ، ثم نسبوا إلى الله العلم والحكمة ، وناسب تقديم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة ، لأنه المتصل به في قوله : { وعلم } ، { أنبئوني } ، { لا علم لنا } .

فالذي ظهرت به المزية لآدم والفضيلة هو العلم ، فناسب ذكره متصلاً به ، ولأن الحكمة إنما هي آثار وناشئة عنه ، ولذلك أكثر ما جاء في القرآن تقديم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة .

ولأن يكون آخر مقالهم مخالفاً لأوله حتى يبين رجوعهم عن قولهم : { أتجعل فيها } ، وعلى القول بأن الحكيم هو ذو الحكمة ، يكون الحكيم صفة ذات ، وعلى القول بأنه المحكم لصنعته يكون صفة فعل .

وأنت : يحتمل أن يكون توكيداً للضمير ، فيكون في موضع نصب ، أو مبتدأ فيكون في موضع رفع ، والعليم مخبره ، أو فضلاً فلا يكون له موضع من الإعراب ، على رأي البصريين ، ويكون له موضع من الإعراب على رأي الكوفيين .

فعند الفراء موضعه على حسب الاسم قبله ، وعند الكسائي على حسب الاسم بعده ، والأحسن أن يحمل العليم الحكيم على العموم ، وقد خصه بعضهم فقال : العليم بما أمرت ونهيت ، الحكيم فيما قدرت وقضيت .

وقال آخر : العليم بالسر والعلانية ، والحكيم فيما يفعله وهو قريب من الأول .