وامضوا في طريقكم التي اختارها الله لكم ، واعبدوا ربكم وادخروا عنده حسناتكم :
( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله . إن الله بما تعملون بصير ) . .
وهكذا . . يوقظ السياق القرآني وعي الجماعة المسلمة ويركزه على مصدر الخطر ، ومكمن الدسيسة ؛ ويعبىء مشاعر المسليمن تجاه النوايا السيئة والكيد اللئيم والحسد الذميم . . ثم يأخذهم بهذه الطاقة المعبأة المشحونة كلها إلى جناب الله ؛ ينتظرون أمره ، ويعلقون تصرفهم بإذنه . . وإلى أن يحين هذا الأمر يدعوهم إلى العفو والسماحة ، لينقذ قلوبهم من نتن الحقد والضغينة . ويدعها طيبة في انتظار الأمر من صاحب الأمر والمشيئة . .
{ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَمَا تُقَدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على معنى إقامة الصلاة ، وأنها أداؤها بحدودها وفروضها ، وعلى تأويل الصلاة وما أصلها ، وعلى معنى إيتاء الزكاة ، وأنه إعطاؤها بطيب نفس على ما فُرضت ووَجبت ، وعلى معنى الزكاة واختلاف المختلفين فيها ، والشواهد الدالة على صحة القول الذي اخترنا في ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما قوله : { وَما تُقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ } فإنه يعني جل ثناؤه بذلك : ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لأنفسكم في معادكم ، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة ، فيجازيكم به . والخير : هو العمل الذي يرضاه الله . وإنما قال : تَجِدُوهُ والمعنى : تجدوا ثوابه . كما :
حُدثت عن عمار بن الحسن . قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { تجِدُوهُ } يعني : تجدوا ثوابه عند الله .
قال أبو جعفر : لاستغناء سامعي ذلك بدليل ظاهر على معنى المراد منه ، كما قال عمر بن لجأ :
وَسَبّحَتِ المَدِينَةُ لا تَلُمْها رأتْ قَمَرا بِسُوقِهِمُ نَهَارا
وإنما أراد : وسبح أهل المدينة . وإنما أمرهم جل ثناؤه في هذا الموضع بما أمرهم به من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لأنفسم ، ليطهّروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود ، وركون من كان ركن منهم إليهم ، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : راعِنا إذ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب ، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والأبدان من أدناس الاَثام ، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير } .
وهذا خبر من الله جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه الاَيات من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير وشرّ سِرّا وعلانية ، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان جزاءه وبالإساءة مثلها . وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعدا ووعيدا ، وأمرا وزجرا وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدّوا في طاعته ، إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يُثيبهم عليه ، كما قال : وما تُقَدّمُوا لأِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ وليحذروا معصيته ، إذ كان مطلعا على راكبها بعد تقدمه إليه فيها بالوعيد عليها . وما أوعد عليه ربنا جل ثناؤه فمنهيّ عنه ، وما وعد عليه فمأمور به .
وأما قوله : بَصِيرٌ فإنه مُبْصِر صرف إلى بصير ، كما صرف مُبْدِع إلى بديع ، ومُؤْلم إلى أليم .
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }( 110 )
قالت فرقة من الفقهاء : إن قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة } عموم ، وقالت فرقة : هو من مجمل القرآن ، والمرجح أن ذلك عموم من وجه ومجمل من وجه ، فعموم من حيث الصلاة الدعاء ، فحمله على مقتضاه ممكن ، وخصصه الشرع بهيئات وأفعال وأقوال( {[1125]} ) ، ومجمل من حيث الأوقات ، وعدد الركعات والسجدات لا يفهم من اللفظ ، بل السامع فيه مفتقر إلى التفسير ، وهذا كله في { أقيموا الصلاة } ، وأما الزكاة فمجملة لا غير( {[1126]} ) .
قال الطبري : إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة لتحط ما تقدم من ميلهم إلى أقوال اليهود { راعنا } [ البقرة : 104 ] ، لأن ذلك نهي عن نوعه ، ثم أمر المؤمنين بما يحطه( {[1127]} ) ، والخير المقدم منقض لأنه فعل ، فمعنى { تجدوه } تجدوا ثوابه وجزاءه ، وذلك بمنزلة وجوده . ( {[1128]} )
وقوله تعالى : { إن الله بما تعملون بصير } خبر في اللفظ معناه الوعد والوعيد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأقيموا الصلاة}... وأتموها لمواقيتها.
{وآتوا الزكاة}... آتوا زكاة أموالكم.
{وما تقدموا لأنفسكم من خير} في الصدقة.
{تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير}...
25- ابن عبد البر:... عن مالك قال: هي فرض، وفي سماع زياد بن عبد الرحمن، قال: سئل مالك عن تفسير قول الله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}، أي زكاة هي التي قرنت بالصلاة؟ قال: فسمعته يقول: هي زكاة الأموال كلها، من الذهب، والورق، والثمار، والحبوب والمواشي، وزكاة الفطر، وتلا: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قد دللنا فيما مضى على معنى إقامة الصلاة، وأنها أداؤها بحدودها وفروضها، وعلى تأويل الصلاة وما أصلها، وعلى معنى إيتاء الزكاة، وأنه إعطاؤها بطيب نفس على ما فُرضت ووَجبت، وعلى معنى الزكاة واختلاف المختلفين فيها، والشواهد الدالة على صحة القول الذي اخترنا في ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله: {وَما تُقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ} فإنه يعني جل ثناؤه بذلك: ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لأنفسكم في معادكم، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة، فيجازيكم به. والخير: هو العمل الذي يرضاه الله. وإنما قال:"تَجِدُوهُ" والمعنى: تجدوا ثوابه، لاستغناء سامعي ذلك بدليل ظاهر على معنى المراد منه...وإنما أمرهم جل ثناؤه في هذا الموضع بما أمرهم به من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لأنفسهم، ليطهّروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود، وركون من كان ركن منهم إليهم، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "راعِنا "إذ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والأبدان من أدناس الآثام، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله.
{إنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير}: وهذا خبر من الله جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير وشرّ سِرّا وعلانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان جزاءه وبالإساءة مثلها. وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدا ووعيدا، وأمرا وزجرا، وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدّوا في طاعته، إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يُثيبهم عليه، كما قال: "وما تُقَدّمُوا لأِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ" وليحذروا معصيته، إذ كان مطلعا على راكبها بعد تقدمه إليه فيها بالوعيد عليها. وما أوعد عليه ربنا جل ثناؤه فمنهيّ عنه، وما وعد عليه فمأمور به.
وأما قوله: "بَصِيرٌ": فإنه مُبْصِر صرف إلى بصير، كما صرف مُبْدِع إلى بديع، ومُؤْلم إلى أليم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} كرر الله عز وجل الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في القرآن تكرارا كثيرا حتى كانت لا تخلو سورة إلا وذكرهما فيها في غير موضع. ذلك لعظم شأنهما وأمرهما وعلو منزلتهما عند الله وفضل قدرهما. وعلى ذلك جعلهما شريعة في الرسل السالفة صلوات الله عليهم، وسلامه ألا ترى إلى قول إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} [إبراهيم: 40] وقوله لموسى وهارون: {أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا} إلى قوله: {وأقيموا الصلاة} [يونس: 87] وقول عيسى: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} [مريم: 31] وقوله: {إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة} [المائدة: 12]. وذلك، والله أعلم، أن الصلاة قربة في ما بين العبد وبين ربه، تجمع جميع أفعال الخير، وفيها غاية منتهى الخضوع له والطاعة من القيام بين يديه والمناجاة فيه والركوع له والسجود على الأرض وتعفير الوجه فيها حتى لو أن أحدا ممن أخلص دينه لله لو أعطي ما في الدنيا أن يعفر وجهه بالأرض لأحد من الخلق ما فعل، وبالله التوفيق.
والزكاة في ما بين العبد وبين الخلق لتأليف القلوب واجتماعها، وفيها إظهار الشفقة لهم والرحمة. لذلك عظم الله تعالى شأنهما، وشرف أمرهما، وأعلى منزلتهما، وعلى ذلك قرنهما بالإيمان في المواضيع كلها، أثبت بين الخلق الأخوة بهما بقوله: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} [التوبة: 11]. ثم هما تكرمان بالعمل لأن الصلاة تجمع جميع أنواع خيرات الفعال، وفيها غاية الخضوع له والخشوع على ما ذكرنا، وذلك مما يوجبه العقل، وإن لم يرد فيه السمع. وكذلك الزكاة؛ فيها تزكية الأنفس وتطهيرها، وذلك مما في العقل واجب...
اعلم أنه تعالى أمر بالعفو والصفح عن اليهود، ثم عقبه بقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} تنبيها على أنه كما ألزمهم لحظ الغير وصلاحه العفو والصفح، فكذلك ألزمهم لحظ أنفسهم وصلاحها القيام بالصلاة والزكاة الواجبتين، ونبه بهما على ما عداهما من الواجبات.
ثم قال بعده: {وما تقدموا لأنفسكم من خير} والأظهر أن المراد به التطوعات من الصلوات والزكوات، وبين تعالى أنهم يجدونه وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال لأنها لا تبقى ولأن وجدان عين تلك الأشياء لا يرغب فيه، فبقي أن المراد وجدان ثوابه وجزائه،
ثم قال: {إن الله بما تعملون بصير} أي أنه لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال، وهو ترغيب من حيث يدل على أنه تعالى يجازي على القليل كما يجازي على الكثير، وتحذير من خلافه الذي هو الشر.
وأما الخير فهو النفع الحسن وما يؤدي إليه، فلما كان ما يأتيه المرء من الطاعة يؤدي به إلى المنافع العظيمة، وجب أن يوصف بذلك، وعلى هذا الوجه قال تعالى: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يَحُثُّ تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتَعُودُ عليهم عاقبتُه يوم القيامة، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 52]؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يعني: أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه، سواء كان خيرًا أو شرًا، فإنه سيجازي كل عامل بعمله...
عن عقبة بن عامر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر في هذه الآية {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} يقول: بكل شيء بصير...
إن قلت: هلا قيل: وأقيموا الصّلاة والزكاة، فيكون أمرا بإقامتهما معا على أبلغ الوجوه.
فالجواب: أنّه لما كانت الصّلاة متكررة مشقة على النّفوس أكّدها بالأمر، وهو الإتيان بها مستوفاة الشرائط، ولما كانت الزكاة لا تكرر فهي أخف، اكتفى فيها بالأمر دون تأكيد...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
روى ابن المبارك في «رَقَائِقِهِ» بسنده قال: "جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي لاَ أُحِبُّ المَوْتَ؟ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مَالٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَقَدِّمْ مَالَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَإِنَّ المَرْءَ مَعَ مَالِهِ، إِنْ قَدَّمَهُ، أَحَبَّ أَنْ يَلْحَقَهُ، وَإِنْ خَلَّفَهُ، أَحَبَّ التَّخَلُّفَ)...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أمرهم بالثقة بهذا الكتاب ما نسخ منه وما لم ينسخ وأن لا يعوقهم عنه طعن الطاعنين ولا حسد الحاسدين، وأمرهم بالإعراض عن الغير، أمرهم بالإقبال على إصلاح النفس والإحسان إلى الغير مما اتصف به المهتدون في قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 2]
ولما كان المقصود من الصلاة قصر الهمة والنية على الحضرة الإلهية وتفريغ البال من جميع الشواغل، علم أن التقدير بعد الختم بشمول القدرة فاعلموا ذلك وثقوا به {وأقيموا الصلاة} التي هي مع كونها سنبتليكم في قبلتها بالنسخ قوام الدين والمعينة على جميع النوائب بإعانة الخالق الذي قصد بها الإقبال عليه والتقرب إليه {وآتوا الزكاة} التي هي قرينة الصلاة، فمن فرق بينهما فقد نسخ ما أثبت الله فاستحق القتال ليرجع عما ارتكب من الضلال، وهي من أعظم نفقات المؤمنين إحساناً إلى الخلائق إن كنتم مصلين بالحقيقة، فإن المال بعض ما صرفت عنه الصلاة من أعراض الدنيا...
ولما كان قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} [البقرة: 104] وما بعده خطاباً للمؤمنين تحذيراً من كيد أعدائهم بالنهي عما يرديهم والأمر بما ينجيهم وختمه بهذه الآية فذلكة لذلك كله جميعاً لمعانيه وفتحها برأس العبادات البدنية والمالية وكانت "أل "مشيرة إلى الواجب من ذلك ختم الآية نفسها بالأمر العام الجامع فقال: {وما تقدموا لأنفسكم من خير} أي من الصلاة والزكاة وغيرهما فرضاً ونفلاً {تجدوه} وزاد ترغيباً فيه بقوله: {عند الله} أي الجامع لصفات الكمال. فهو يحفظه بما له من العلم والقدرة ويربيه بما له من الكرم والرحمة -إلى غير ذلك من أمور الفضل...
ولما كان الشيء قد يهمل لكونه صغيراً وقد لا يطلع عليه لكونه خفياً حقيراً قال مرغباً مرهباً: {إن الله} المحيط قدرة وعلماً {بما تعملون بصير} وأظهر الاسم في موضع الإضمار إشعاراً بالاستئناف للخير ليكون ختماً جامعاً. لأنه لو عاد على خصوص هذا الخطاب لكان "إنه"، وذلك لأن تجديد الإظهار يقع بمعنى رد ختم الخطاب على إحاطة جملته- قاله الحرالي. والمعنى أنه لو أضمر لكان ربما أفهم تقيد علمه بحيثية ما تقدم من عمل الخير...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزكواة} عطف على {فاعفوا} [البقرة: 109] كأنه سبحانه أمرهم بالمخالقة والالتجاء إليه تعالى بالعبادة البدنية والمالية لأنها تدفع عنهم ما يكرهون...
{وَمَا تُقَدّمُواْ لأنفسكم مّنْ خَيْرٍ} أي أي خير كان، وفي ذلك توكيد للأمر بالعفو والصفح، والصلاة والزكاة، وترغيب إليه، واللام نفعية، وتخصيص الخير بالصلاة، والصدقة خلاف الظاهر، وقرئ (تقدموا) من قدم من السفر، وأقدمه غيره جعله قادماً، وهي قريب من الأولى لا من الإقدام ضد الإحجام...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ} بطهارة وخشوع وإخلاص مع تأديتها بأجزائها، وهكذا فى سائر القرآن
{وَءَاتُوا الزَّكَوةَ} صيروها آتية أهلها، بأن توصلوها إلى مستحقيها، وعلى أصحاب الزكاة مؤونة حملها والمجيء بها حتى تصل العامل الذى جاء إليها، أو للفقير إذ لم يكن الإمام، أو أمرهم بتفريقها، وذلك هو الأصل. وإن جاءها الفقير أو وكيله وقبضها أجزت، والمراد بالزكاة الجزء المعلوم من المال، ويجوز أن يراد اجعلوا التزكية آتية منكم إلى أهلها، وكذلك في سائر القرآن، وذلك أمر بالعبادة البدنية والمالية، لأنها تدفع المكروه...
{وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} طاعة، كأمر ونهى، وتعليم وصلة رحم، وأداء فرض أو سنة أو نفل.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(قال الأستاذ): ثم بعد الوعد بالنصر والإرشاد إلى الاعتماد فيه على القدرة دلهم على بعض وسائل تحققه، وهي الصلاة التي توثق عروة الإيمان وتعلي الهمة وترفع النفس بمناجاة الله العلي الكبير، وتؤلف بين القلوب بالاجتماع لها، والتعارف في مساجدها، والزكاة التي تصل بين الأغنياء والفقراء فتتكون باتصالهم وحدة الأمة حتى تكون كجسم واحد، فقال {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}
ولم تذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في موضع من الكتاب الحكيم إلا والمقام يقتضي الذكر لبيان فائدة خاصة لهذا الأمر لا يمكن أن تستفاد من ذكرهما في موضع آخر...
وقد تقدم أن إقامة الصلاة ليست عبارة عن أدائها مطلقا، وإنما هي عبارة عن القيام بحقوقها الروحية في صورتها العملية وذلك بالتوجه إلى الله تعالى ومناجاته والانقطاع إليه عما عداه، وإشعار القلب عظمته وكبريائه، فبهذا الشعور ينمو الإيمان وتقوى الثقة بالله، وتتنزه النفس أن تأتي الفواحش والمنكرات، وتستنير البصيرة فتكون أقوى نفاذا في الحق وأشد بعدا عن الأهواء، فنفوس المصلين جديرة بالنصر لما تعطيها الصلاة من القوة المعنوية ومن الثقة بقدرة الله تعالى،
فإذا كان قوله تعالى بعد الوعد بالنصر {إن الله على كل شيء قدير} دليلا أيد به الوعد فقوله {وأقيموا الصلاة} هداية إلى طريق الاقتناع التام بهذا الدليل حتى يكون وجدانا للنفس لا تزلزله الشبهات، ولا تؤثر فيه المشاغبات والمجادلات...
وقد مضت سنة القرآن بقرن الزكاة بالصلاة لأن الصلاة لإصلاح نفوس الأفراد، والزكاة لإصلاح شئون الاجتماع، ثم إن فيها من معنى العبادة ما في الصلاة فإن المال – كما يقولون – شقيق الروح، فمن جاد به ابتغاء مرضاة الله تعالى كان بذله مزيدا في إيمانه، فهي إصلاح روحي أيضا...
(الأستاذ الإمام): هذه الآيات هي آخر ما أدب الله تعالى به المؤمنين في هذا المقام على ما يخامر البعض منهم وما يعن له من الشبه في مستقبل الإسلام وتأييده تعالى لنبيه وإزاره لحزبه، وكان أولها قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} وكأن منشأ تلك الخواطر هو ما يرونه في التنزيل المرة بعد المرة وما يشاهدونه من عمل النبي صلى الله عليه وسلم من الجزم بأن الأسباب مقرونة بمسبباتها وأن حوادث الكون جارية على سنن مطردة؛ وما كان هذا الفريق من المؤمنين يعلم قبل إعلام الله تعالى إياهم بأن الإيمان الصحيح الذي يتوكل صاحبه – بعد اتخاذ الأساليب والوسائل – على القدرة الإلهية والعناية الغيبية، وعمل الصالحات الذي يصلح النفوس، ويؤلف مع الاعتقاد بين القلوب، هما أكبر أسباب القوة، وأقرب وسائل السيادة والسعادة، وقد جاء هذا الإرشاد والتأديب في سياق الكلام على أهل الكتاب، لأن مكرهم السيئ كان مثارا لبعض الخواطر في المسلمين فالكلام تأديب للمؤمنين ورد على اليهود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} أريد به الأمر بالثبات على الإسلام؛ فإن الصلاة والزكاة ركناه، فالأمر بهما يستلزم الأمر بالدوام على ما أنتم عليه.
{وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} مناسب للأمر بالثبات على الإسلام وللأمر بالعفو والصفح. وفيه تعريض باليهود بأنهم لا يقدرون قدر عفوكم وصفحكم، ولكنه لا يضيع عند الله ولذلك اقتصر على قوله: {عند الله}.
{إن الله بما تعملون بصير} تذييل لما قبله. والبصير: العليم كما تقدم، وهو كناية عن عدم إضاعة جزاء المحسن والمسيء، لأن العليم القدير إذا علم شيئاً فهو يرتب عليه ما يناسبه، إذ لا يذهله جهل ولا يعوزه عجز. وفي هذا وعد لهم يتضمن وعيداً لغيرهم، لأنه إذا كان بصيراً بما يعمل المسلمون، كان بصيراً بما يعمل غيرهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن العفو والصفح صفحا جميلا لا منة فيه، يحتاج إلى رياضة نفسية وطهارة روحية وإلف اجتماعي؛ ولذلك قرن الله تعالى الأمر بالمعروف والصفح والأمر بالصلاة والزكاة وتقديم الخير رجاء من عند الله قال الله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}. إقامة الصلاة أداؤها على الوجه الأكمل بأن يأتي بأركانها الظاهرة، وأركانها الباطنة مقومة غير معوجة طيبة خارجة من القلوب ليست النفس منفصلة عما تقوم به الجوارح، فإذا قال:"الله أكبر" شعر بعظمة الله وأحس برقابته، وأنه دخل بالتكبير في ظل رحمته، وأنه رقيب عليه وأنه يواجهه، وأنه في حضرة منشئ هذا الوجود بما فيه من سماء وأرض وجبال ووهاد، وأن نفسه في قبضة يده، والوجود كله في قبضته، وإنه بذلك يحس كأنه يرى الله لأنه في حضرته، وبذلك يعلو عن الأحقاد وعن الحسد، وعن كل ضغن وإحن؛ ولذا قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر... (45)} [العنكبوت].
والزكاة تعاون إنساني؛ لأنها معاونة القوي للضعيف وإعطاء الغني للفقير، والربط بين الإنسان بالأخوة الجامعة والمحبة الراحمة والمودة الواصلة، وعندها يزول الحسد ولا يتمنى أحد زوال نعمة أحد، وعند ذلك يكون العفو الشامل والصفح الجميل، ويدرك معنى قوله تعالى فاصفح الصفح الجميل، ويراه بقلبه عيانا...
والخير الذي تفعله لن تدخره عندك أو عند من قد ينكره.. ويقول لا شيء لك عندي ولكن الله سيدخره لك.. فانظر إلى الاطمئنان والعمل في يد الله الأمينة، وفي مشيئته التي لا يغفل عنها شيء، وفي قدرته التي تضاعف أضعافا مضاعفة.. وتجده في الوقت الذي تكون في أحوج اللحظات إليه وهو وقت الحساب.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {والله بما تعملون بصير}.. أي لا تعتقد أن هناك شيئا يخفى على الله، أو أن أحدا يستطيع أن يخدع الله؛ فالله سبحانه وتعالى بصير بكل شيء.. ليس بالظاهر منك فقط.. ولكن بما تخفيه في نفسك ولا تطلع عليه أحدا من خلق الله، إنه يعلم كل شيء واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء "38 "} (سورة إبراهيم). وهكذا نطمئن إلى أن الله بصير بكل شيء، وانظر إلى قوله جل جلاله:
{يعملون} لتفهم أهمية العمل. بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن أقصى أماني أهل الكتاب أن يردونا كفارا، وأن هذا حسدا منهم. أراد الله تبارك وتعالى أن يبين لنا ما الذي يكرهه أهل الكتاب.. وقال إن الذي يتعبهم ميزان العدل والحق الذي نتبعه.. منهج الله سبحانه وتعالى.. ولذلك يأمر الله المؤمنين أن يثبتوا ويتمسكوا بالإيمان، وأن يقبلوا على التكليف فهذا أحسن رد عليهم.. والتكاليف التي جاء بها الإسلام منها تكليفات لا تتطلب إلا وقتاً من الزمن وقليلا من الفعل كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. إن شهادة لا إله إلا الله تقال مرة في العمر.. والزكاة والصوم مرة كل عام.. والحج للمستطيع مرة في العمر.. ولكن هناك من العبادات ما يتكرر كل يوم ليعطي المؤمن شحنة اليقين والإيمان ويأخذه من دنياه بالله أكبر خمس مرات في اليوم.. وهذه هي العبادة التي لا تسقط أبدا.. والإنسان سليم والإنسان مريض.. فالمؤمن يستطيع أن يصلي واقفا وأن يصلي جالسا وأن يصلي راقدا.. وأن يجري مراسم الصلاة على قلبه.. لذلك كانت هذه أول عبادة تذكر في قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} أي والتفتوا إلى نداءات ربكم للصلاة.. وعندما يرتفع صوت المؤذن بقوله الله أكبر فهذه دعوة للإقبال على الله.. إقبال في ساعة معلومة لتقفوا أمامه سبحانه وتعالى وتكونوا في حضرته يعطيكم الله المدد.. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حزبه أمر صلى".. ومعنى حزبه أمر.. أي ضاقت به أسبابه فلم يجد مخرجا ولا طريقا إلا أن يلجأ إلى الله.. إذا حدث هذا يتوضأ الإنسان ويصلي ركعتين غير الفريضة.. ثم يدعو ما يشاء فيفرج الله كربه.. إذن: {فأقيموا الصلاة} هي الرد المناسب على كل محاولاتهم ليسلبوكم دينكم.. ذلك أن هذا التكليف المقرر لإعلان الولاء الإيماني لله كل يوم خمس مرات.. نترك كل ما في الدنيا ونتجه إلى الله بالصلاة.. إنها عماد الدين وأساسه.
وقوله تعالى: {وآتوا الزكاة}.. إيتاء الزكاة لا يحدث إلا إذا كان لديهم ما هو زائد عن حاجتك.. فكأن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نضرب في الأرض لنكسب حاجتنا وحاجة من نعول ونزيد.. وبذلك يخرج المسلمون من سيطرة اليهود الاقتصادية التي يستذلون بها المسلمين. فالمؤمن حين يأتي الزكاة معناه أن حركته اتسعت لتشمل حاجته وحاجة غيره.. ولذلك حتى الفقير يجد في الزائد في أموال المسلمين ما يكفي حاجته.. فلا يذهب إلى اليهودي ليقترض بالربا.. ولذلك فالله سبحانه وتعالى يريد أن يتكامل المسلمون.. بحيث تكفي أموالهم غنيهم وفقيرهم والقادر على العمل منهم وغير القادر والله تبارك وتعالى يزيد أموال المسلمين بأكثر مما يخرج منها من زكاة.. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه".
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية التالية تأمر المسلمين بحكمين هامّين: إقامة الصلاة باعتبارها رمز ارتباط الإِنسان بالله، وإيتاء الزكاة وهي أيضاً رمز التكافل بين أبناء الأمة المسلمة، وكلاهما ضروريان لتحقيق الانتصار على العدو: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَأَتُوا الزَّكَاةَ}...
ثم تؤكّد الآية على خلود العمل الصالح وبقائه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ}. والله سبحانه عالم بالسرائر، ويعلم دوافع الأعمال، ولا يضيع عنده أجر العاملين {إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}...
[و] «اصفحوا» من «صفح»، وصفح الشيء عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف وصفحة الحجر، والأمر بالصفح هو الأمر بالإِعراض، لكنّ عطفها على «فَاعْفُوا» يفهم أنه أمر بالإِعراض لا عن جفاء، بل عن عفو وسماح. وهذا التعبير يوحي أيضاً أن المسلمين كانت لهم قدرة المقابلة وعدم الصفح، لكن الأمر بالعفو والصفح يستهدف اتمام الحجّة على العدوّ، كي يهتدي من هو قابل للإِصلاح. بعبارة أخرى: ممارسة القوّة ليست المرحلة الأولى في مواجهة العدوّ، بل العفو والصفح، فإن لم يُجد نفعاً فالسيف.