تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (110)

الآية 110 وقوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } كرر الله عز وجل الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في القرآن تكرارا كثيرا حتى كانت لا تخلو سورة إلا وذكرهما فيها في غير موضع . ذلك{[1285]} لعظم شأنهما وأمرهما وعلو منزلتهما عند الله وفضل قدرهما . وعلى ذلك جعلهما شريعة في الرسل [ السالفة ]{[1286]} [ صلوات الله عليهم ، وسلامه ]{[1287]} ألا ترى إلى قول إبراهيم [ على نبينا وعليه الصلاة والسلام ]{[1288]} { رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي } [ إبراهيم : 40 ] وقوله لموسى وهارون : { أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا } إلى قوله{[1289]} : { وأقيموا الصلاة } [ يونس : 87 ] وقول عيسى : { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا }[ مريم : 31 ] وقوله : { إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة } [ المائدة : 12 ] .

وذلك ، والله أعلم ، أن الصلاة قربة في ما بين العبد وبين ربه ، تجمع جميع أفعال الخير ، وفيها غاية منتهى الخضوع [ له ]{[1290]} والطاعة من القيام بين يديه والمناجاة فيه والركوع له والسجود على الأرض وتعفير{[1291]} الوجه فيها حتى{[1292]} لو أن أحدا ممن أخلص دينه لله لو أعطي ما في الدنيا أن يعفر وجهه بالأرض{[1293]} لأحد من الخلق ما فعل ، وبالله التوفيق .

والزكاة في ما بين العبد وبين الخلق لتأليف{[1294]} القلوب واجتماعها ، وفيها إظهار الشفقة لهم والرحمة .

لذلك عظم الله تعالى شأنهما ، وشرف أمرهما ، وأعلى منزلتهما ، وعلى ذلك قرنهما بالإيمان في المواضيع كلها ، أثبت بين الخلق الأخوة بهما بقوله : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } [ التوبة : 11 ] . ثم هما تكرمان بالعمل لأن الصلاة تجمع جميع أنواع خيرات الفعال ، وفيها غاية الخضوع له والخشوع على ما ذكرنا ، وذلك مما يوجبه العقل ، وإن لم يرد فيه السمع . وكذلك الزكاة ؛ فيها تزكية الأنفس وتطهيرها ، وذلك مما في العقل واجب .

فإن قيل : ما الحكمة في وجوبهما{[1295]} ؟ قيل : إظهار ما أنعم الله على العباد{[1296]} من الأموال والسعة فيها وما{[1297]} أعطاهم من سلامة الجوارح من جميع الآفات يخرج مخرج الآمر بأداء شكر ما أنعم عليهم عز وجل .

فإن قيل : [ ما الحكمة ]{[1298]} في وجوبهما{[1299]} في ما أعطى منهما{[1300]} ، يعني من النفس والمال دون غيره ؟ قيل : لأن الوجوب من غيره يخرج مخرج المعارضة والمبادلة لا مخرج أداء الشكر ، والله أعلم .

ثم الحكمة في إيجاب الصلاة [ والزكاة ]{[1301]} وغيرهما من العبادات أن الله تعالى إذ عمهم بنعمه في ما فضلهم بالجوهر ، وسخر لهم جميع ما في الأرض ، وبسط عليهم النعم حتى صار كل منهم لا يبصر غير نعمه من غير استحقاق منهم شيئا من ذلك ألزمهم{[1302]} الشكر عليها .

ثم كانت الصلاة تجمع استعمال جميع الجوارح في ما لله فيها{[1303]} القيام شكرا له مع ما فيها توفر{[1304]} أحوال نفسه بالاختيار بما هي عليه بالاضطراب والخلقة والقلب بالنية والخوف والرجاء وإحصار{[1305]} الذهن والعقل بالتعظيم والتبجيل ، [ فيكون كل ]{[1306]} شيء منه في شكره لما له فيه من سبوغ النعمة ، والله أعلم .

وكذلك بالأموال فضلوا في هذه الدنيا ، واستمتعوا بلذيذ العيش ، فأمروا بالإخراج لله مع ما إذا سخرت هذه الأرض بما فيها بجميع البشر ألزم من ذلك صلى من لم يملك ليستووا في الاستمتاع بالتسخير لهم من الوجه الذي علم الله لهم في ذلك صلاح الدارين ، ولا قوة إلا بالله .

وقوله : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } الآية{[1307]} . تخرج على خلاف قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن من ارتكب كبيرة ، ثم أقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وجاهد في سبيل الله ، وحج بيت الله الحرام ، وقدم خيرات كثيرة ، فإنه لا يجد مما{[1308]} قدم شيئا ، ولكن يجد ما قدم من شر ، وذلك ليس من فعل الكريم والجواد ، ولا كذلك وصف الله نفسه ، بل وصف نفسه على خلاف ما وصفوا هم ، فقال : { أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا وتتجاوز عن سيئاتهم } [ الأحقاف : 16 ] . وهم يقولون : لا يتقبل عنهم ما قدموا من الخيرات ، ولا يتجاوز عن سيئاتهم ؛ وذلك سرف في القول ، فنعوذ بالله من السرف في القول والحكم على الله ، وبالله [ العصمة ]{[1309]} والتوفيق .

وقوله : { إن الله بما تعملون بصير } بما قدمتم من الخير والشر تنبيه منه عز وجل ليكونوا على حذر من الشر وترغيب منه لهم بالخيرات ، والله أعلم .


[1285]:- في ط م و ط ع: وذلك.
[1286]:- من ط م.
[1287]:- في ط ع: صلوات الله عليهم وسلامه، ساقطة من ط م.
[1288]:- في ط م عليه السلام.
[1289]:- أدرجت الآية كاملة في ط ع بدل العبارة: إلى قوله.
[1290]:- من ط م.
[1291]:- من ط م، الواو ساقطة من الأصل و ط ع.
[1292]:- ساقطة من ط ع.
[1293]:- في ط م: في الأرض.
[1294]:- في ط م: التآلف، في ط ع: لتألف.
[1295]:- في ط م: وجوبها.
[1296]:- في ط م: عليه.
[1297]:- الواو ساقطة من الأصل.
[1298]:- من ط م.
[1299]:- في ط م: وجوبها.
[1300]:- في ط م: منها.
[1301]:- من ط م و ط ع.
[1302]:- في النسخ الثلاث: لزمهم.
[1303]:- في ط م: بها.
[1304]:- في ط م: توقف.
[1305]:- في ط م: وإحضار.
[1306]:- من ط م، في الأصل و ط ع: ليكون لكل.
[1307]:- ساقطة من ط ع.
[1308]:- من ط م، في الأصل و ط ع: ما.
[1309]:- من ط م.