اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (110)

لما أمرنا بالعفو والصفح عن اليهود عقبه بقوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ } تنبيهاً لهما على ما أعد لهما من الواجبات وقوله بعده :

{ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَِنفُسِكُم منْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } [ المزمل : 20 ] . الأظهر أن المراد به التطوّعات من الصلوات والزكوات ، وبيّن تَعَالى أنهم يجدونه ، وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال ؛ لأنها لا تبقى ، ولأن وِجْدَان عين تلك الأشياء ، ولا يرغب فيه ، فبقي أن المراد وِجْدَان ثوابه وجزائه .

قوله تعالى : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم منْ خَيْرٍ } كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } .

فيجوز في " ما " أن تكون مفعولاً بها ، وأن تكون واقعةً موقع المصدر ، ويجوز في " مِنْ خَيْرٍ " الأربعة أوجه التي في " من آيَةٍ " : من كونه مفعولاً به ، أو حالاً ، أو تمييزاً ، أو متعلّقاً بمحذوف .

و " مِنْ " تبعيضية ، وقد تقدم تحقيقها ، فليراجع ثَمَّة .

و " لأَنفُسِكُم " متعلّق ب " تقدمُّوا " ، أي : لحياة أنفسكم ، وحذف ، و " تجدوه " جواب الشرط ، وهي متعدّية لواحد ؛ لأنها بمعنى الإصابة ، ومصدرها الوِجْدَان بكسر الواو كما تقدم ، ولا بد من حذف مضاف أي : تجدوا ثوابه ، وقد جعل الزمخشري رحمه الله تعالى الهاء عائدة على " ما " ، وهو يريد ذلك ؛ لأنَّ الخير المتقدم سبب منقض لا يوجد ، إنما يوجد ثوابه .

[ فصل فيما بعد الموت

جاء في الحديث أن العبد إذا مات قال الناس : مَا خَلَّفَ ؟ وقالت الملائكة عليهم السلام : ما قَدَّمَ ؟

وجاء عن عُمَرَ رضي الله تعالى عَنْهُ أنه مَرَّ ببقيع " الغَرْقَد " فقال : السلامُ عليكمُ يا أهل القبور ، أخبارُنَا عنْدَنا أنَّ نِسَاءكم قد تزوَّجْن ، ودُروكُم قد سُكِنَتْ ، وأموالكم قد قُسِّمَتْ ، فأجابه هاتفٌ : يا ابن الخطاب ، أخبارُ ما عندنا أنَّ ما قدَّمْنَاه وجَدْنَاه ، وما أنفقْنَاه فقد ربِحْنَاه ، وما خلَّفناه فقد خَسِرْناه{[1728]} ؛ وقد أحسن القائلُ حيثُ قال : [ الكامل ]

735- قَدِّمْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ صَالِحاً *** وَاعْمَلْ فَلَيْسَ إلى الخُلُودِ سَبِيلُ{[1729]}

وقال آخر : [ الكامل ]

736- قَدِّمْ لِنَفْسِكَ تَوْبَةً مَرْجُوَّةً *** قَبْلَ المَمَاتِ وَقَبْلَ حَبْسِ الأَلْسُنِ{[1730]}

وقال آخر : [ السريع ]

737- وَقَدِّمِ الخَيْرَ فَكُلُّ امْرِئ *** عَلَى الَّذِي قَدَّمَهُ يَقْدَمُ{[1731]} ]{[1732]}

فصل في إعراب الآية

قوله : " عِنْدَ اللهِ " يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب " تَجِدُوهُ " .

والثاني : أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من المفعول أي : تجدوا ثوابه مدّخراً معدّاً عند الله تعالى ، والظَّرفية هنا مجاز نحو : " لك عند فلان يد " .

قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال فهو ترغيب وتحذير .


[1728]:- ذكره القرطبي في تفسيره 2/51.
[1729]:- ينظر القرطبي: 2/51.
[1730]:- ينظر القرطبي: 2/51.
[1731]:- وقبله: سابق إلى الخير وبادر به *** فإنما خلفك ما تعلم ينظر القرطبي: 2/51. وأحسن من هذا قول أبي العتاهية: إسعد بما لك في حياتك إنما *** يبقى وراءك مصلح أو مفسد. وإذا تركت لمفسد لم يبقه *** وأخو الصلاح قليله يتزيد وإن استطعت فكن لنفسك وارثا *** إن المورث نفسه لمسدد
[1732]:- سقط في ب.