{ 87 } { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ } حين اشتد الأمر على قومهما ، من فرعون وقومه ، وحرصوا على فتنتهم عن دينهم .
{ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } أي : مروهم أن يجعلوا لهم بيوتًا ، يتمكنون ]به[ من الاستخفاء فيها .
{ وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي : اجعلوها محلا ، تصلون فيها ، حيث عجزتم عن إقامة الصلاة في الكنائس ، والبيع العامة .
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } فإنها معونة على جميع الأمور ، { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } بالنصر والتأييد ، وإظهار دينهم ، فإن مع العسر يسرًا ، إن مع العسر يسرًا ، وحين اشتد الكرب ، وضاق الأمر ، فرجه الله ووسعه .
فلما رأى موسى ، القسوة والإعراض من فرعون وملئه{[414]} ، دعا عليهم وأمن هارون على دعائه ، فقال :
وعقب هذا التميز ، وفي فترة الانتظار بعد الجولة الأولى ، وإيمان من آمن بموسى ، أوحى اللّه إليه وإلى هارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتاً خاصة بهم ، وذلك لفرزهم وتنظيمهم استعداداً للرحيل من مصر في الوقت المختار ؛ وكلفهم تطهير بيوتهم ، وتزكية نفوسهم ، والاستبشار بنصر اللّه :
( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً ، واجعلوا بيوتكم قبلة ، وأقيموا الصلاة ، وبشر المؤمنين ) . .
وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية . وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات ، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات . ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية ، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة ، تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة ، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة .
وهذه التجربة التي يعرضها اللّه على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة ، ليست خاصة ببني إسرائيل ، فهي تجربة إيمانية خالصة . وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي ، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت ، وفسد الناس ، وأنتنت البيئة - وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة - وهنا يرشدهم اللّه إلى أمور :
اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها - ما أمكن في ذلك - وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها ، لتطهرها وتزكيها ، وتدربها وتنظمها ، حتى يأتي وعد اللّه لها .
اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد . تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي ؛ وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح ؛ وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ وَأَخِيهِ أَن تَبَوّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذ لقومكما بمصر بيوتا ، يقال منه : تبوأ فلان لنفسه بيتا : إذا اتخذه ، وكذلك تبوأ مصحفا : إذا اتخذا ، وبوأته أنا بيتا : إذا اتخذته له . وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً يقول : واجعلوا بيوتكم مساجد تصلون فيها .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : مساجد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : أمروا أن يتخذوها مساجد .
قال : حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ، قال : حدثنا زهير ، قال : حدثنا خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله تعالى : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانوا يفرقون من فرعون وقومه أن يصلوا ، فقال لهم : اجعلوا بيوتكم قبلة ، يقول : اجعلوها مسجدا حتى تصلوا فيها .
حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : خافوا فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانوا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شبل ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانوا لا يصلون إلا في البيع ، وكانوا لا يصلون إلا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .
قال : حدثنا جرير عن ليث ، عن مجاهد ، قال : كانوا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .
قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانت بنو إسرائيل تخاف فرعون ، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس في قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً يقول : مساجد .
قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانوا يصلون في بيوتهم يخافون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، عن أبي سنان ، عن الضحاك : أنْ تَبَوّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا قال : مساجد .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانوا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : قال أبي زيد : اجعلوا في بيوتكم مساجدكم تصلون فيها تلك القبلة .
وقال آخرون : معنى ذلك : واجعلوا مساجدكم قبل الكعبة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً يعني الكعبة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وأقِيمُوا الصّلاةَ وَبَشّر المُوءْمِنِينَ قال : قالت بنو إسرائيل لموسى : لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة . فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم ، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة .
حدثنا القاسم . قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : قال ابن عباس في قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً يقول : وجهوا بيوتكم مساجدكم نحو القبلة ، ألا ترى أنه يقول : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تَرْفَعَ ؟
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : قبل القبلة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : نحو الكعبة ، حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلوا في الكنائس الجامعة ، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرّا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ثم ذكر مثله سواء .
قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأوْحَيْنا إلى مُوسَى وأخِيهِ أنْ تَبَوّءَا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا مساجد .
قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : في قوله : أنْ تَبَوّءَا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا قال : مصر ، الإسكندرية .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأوْحَيْنا إلى مُوسَى وأخِيهِ أنْ تَبَوّءَا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : وذلك حين منعهم فرعون الصلاة ، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم وأن يوجهوا نحو القبلة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : نحو القبلة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق ، عن أبي سنان ، عن الضحاك : وأوْحَيْنا إلى مُوسَى وأخِيهِ أنْ تَبَوّءَا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا قال : مساجد . وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : قبل القبلة .
وقال آخرون : معنى ذلك : واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : يقابل بعضها بعضا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي قدمنا بيانه وذلك أن الأغلب من معاني البيوت وإن كانت المساجد بيوتا ، البيوت المسكونة إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد لأن المساجد لها اسم هي به معروفة خاصّ لها ، وذلك المساجد . فأما البيوت المطلقة بغير وصلها بشيء ولا إضافتها إلى شيء ، فالبيوت المسكونة ، وكذلك القبلة الأغلب من استعمال الناس إياها في قِبَل المساجد وللصلوات . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به دون الخفي المجهول ما لم تأت دلالة تدلّ على غير ذلك ، ولم يكن على قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً دلالة تقطع العذر بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب ، لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا . وكذلك القول في قوله : قِبْلَةً وأقِيمُوا الصّلاةَ يقول تعالى ذكره : وأدّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها . وقوله : وَبَشّرِ المُومِنِينَ يقول جلّ ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام : وبشر مقيمي الصلاة المطيعي الله يا محمد المؤمنين بالثواب الجزيل منه .
{ وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّءا } أي اتخذا مباءة . { لقومكُما بمصر بيوتا } تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة . { واجعلوا } أنتما وقومكما . { بيوتكم } تلك البيوت . { قبلة } مصلى وقيل مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة ، وكان موسى صلى الله عليه وسلم يصلي إليها . { وأقيموا الصلاة } فيها ، أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم . { وبشر المؤمنين } بالنصرة في الدنيا والجنة في العقبى ، وإنما ثنى الضمير أولا لأن التبوأ للقوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور ، ثم جمع لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما ينبغي أن يفعله كل أحد ، ثم وحد لأن البشارة في الأصل وظيفة صاحب الشريعة .
روي أن فرعون أخاف بني إسرائيل وهدم لهم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة ونحو هذا ، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بيوتاً بمصر ، قال مجاهد : { مصر } في هذه الآية الإسكندرية ، ومصر ما بين البحر إلى أسوان ، والإسكندرية من أرض مصر ، و { تبوّآ } معناه كما قلنا تخيراً واتخذا ، وهي لفظة مستعملة في الأماكن وما يشبه بها ، ومن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
لها أمرها حتى إذا ما تبوأت*** لأنحامها مرعى تبوأ مضجعا{[6203]}
وهذا البيت للراعي وبه سمى المراعي ومنه قول امرىء القيس : [ الكامل ]
يتبوأون مقاعداً لقتالكم*** كليوثِ غابٍ ليلهن زئير{[6204]}
وقرأ الناس «تبوّآ » بهمزة على تقدير تبوعا{[6205]} ، وقرأ حفص في رواية هبيرة «تبويا » وهذا تسهيل ليس بقياسي ، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف ، قوله { قبلة } ومعناه مساجد ، قاله ابن عباس والربيع والضحاك والنخعي وغيرهم ، قالوا : خافوا فأمروا بالصلاة في بيوتهم ، وقيل يقابل بعضها بعضاً ، قاله سعيد بن جبير والأول أصوب ، وقيل معناه متوجهة إلى القبلة ، قاله ابن عباس ، ومن هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خير بيوتكم ما استقبل به القبلة » ، وقوله { وأقيموا الصلاة } خطاب لبني إسرائيل هذا قبل نزول التوراة لأنها لم تنزل إلا بعد إجازة البحر{[6206]} ، وقوله { وبشر المؤمنين } أمر لموسى عليه السلام ، وقال مكي والطبري هو أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا غير متمكن