{ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ْ } فتبجح بآلهته [ التي هي ]{[505]} من الحجر والأصنام ، ولام إبراهيم عن رغبته عنها ، وهذا من الجهل المفرط ، والكفر الوخيم ، يتمدح بعبادة الأوثان ، ويدعو إليها .
{ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ ْ } أي : عن شتم آلهتي ، ودعوتي إلى عبادة الله { لَأَرْجُمَنَّكَ ْ } أي : قتلا بالحجارة { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ْ } أي : لا تكلمني زمانا طويلا .
ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحب الألفاظ وأرقها لا تصل إلى القلب المشرك الجاسي ، فإذا أبو إبراهيم يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد :
( قال : أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ? لئن لم تنته لأرجمنك . واهجرني مليا ) .
أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ، وكاره لعبادتها ومعرض عنها ? أو بلغ بك الأمر إلى هذا الحد من الجراءة ? ! فهذا إنذار لك بالموت الفظيع إن أنت أصررت على هذا الموقف الشنيع : ( لئن لم تنته لأرجمنك ) ! فاغرب عن وجهي وابعد عني طويلا . استبقاء لحياتك إن كنت تريد النجاة : ( واهجرني مليا ) . .
بهذه الجهالة تلقى الرجل الدعوة إلى الهدى . وبهذه القسوة قابل القول المؤدب المهذب . وذلك شأن الإيمان مع الكفر ؛ وشأن القلب الذي هذبه الإيمان والقلب الذي أفسده الكفر .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ لَئِن لّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : قال أبو إبراهيم لإبراهيم ، حين دعاه إبراهيم إلى عبادة الله وترك عبادة الشيطان ، والبراءة من الأوثان والأصنام : أرَاغِبٌ أنْتَ يا إبراهيم عن عبادة آلهتي ؟ لَئِن أنت لَمْ تَنْتَهِ عن ذكرها بسوء لأَرْجُمَنّكَ يقول : لأرجمنك بالكلام ، وذلك السبّ ، والقول القبيح . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قال أرَاغِبٌ أنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنّكَ بالشتيمة والقول .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، في قوله : لَئِنَ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنّكَ قال : بالقول لأشتمنك .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لأَرْجُمَنّكَ يعني : رجْم القول .
وأما قوله : وَاهْجُرْنِي مَلِيّا فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : واهجرني حينا طويلاً ودهرا . ووجّهوا معنى المليّ إلى المُلاوة من الزمان ، وهو الطويل منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، في قوله : وَاهجُرْنِي مَلِيّا قال : دهرا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله مَلِيّا قال حينا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن وَاهْجُرْنِي مَلِيّا قال : طويلاً .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله وَاهْجُرْنِي مَلِيّا قال : زمانا طويلاً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سَلَمة ، عن ابن إسحاق وَاهْجُرْنِي مَلِيّا يقول : دهرا ، والدهر : المليّ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير وَاهْجُرْنِي مَلِيّا قال دهرا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، حدثنا أسباط ، عن السديّ وَاهْجُرْنِي مَلِيّا قال : أبدا . وقال آخرون : بل معنى ذلك : واهجرني سَويّا سالما من عقوبتي إياك ، ووجّهوا معنى المليّ إلى قول الناس : فلان مليّ بهذا الأمر : إذا كان مضطلعا به غنيا فيه . وكأن معنى الكلام كان عندهم : واهجرني وعرضُك وافر من عقوبتي ، وجسمك معافى من أذاي . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس وَاهْجُرْنِي مَلِيّا يقول : اجتنبني سَوِيّا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَاهْجُرْنِي مَلِيّا قال : اجتنبني سالما قبل أن يصيبك مني عقوبة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاهْجُرْنِي مَليّا قال : سالما .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن كثير بن درهم أبو غسان ، قال : حدثنا قرة بن خالد ، عن عطية الجدلي وَاهْجُرْنِي مَلِيّا قال : سالما .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله وَاهْجُرْنِي مَليّا : اجتنبني سالما لا يصيبك مني معرّة .
قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الاَية عندي قول من قال : معنى ذلك : واهجرني سويا ، سِلما من عقوبتي ، لأنه عقيب قوله : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنّكَ وذلك وعيد منه له إن لم ينته عن ذكر آلهته بالسوء أن يرجمه بالقول السيىء ، والذي هو أولى بأن يتبع ذلك التقدّم إليه بالانتهاء عنه قبل أن تناله العقوبة ، فأما الأمر بطول هجره فلا وجه له .
{ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم } قابل استعطافه ولطفه في الإرشاد بالفظاظة وغلظه العناد فناداه باسمه ولم يقابل { يا أبتي } بيا بني ، وأخره وقدم الخبر على المبتدأ وصدره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب ، كأنها مما لا يرغب عنها عاقل ثم هدده فقال : { لئن لم تنته } عن مقالك فيها أو الرغبة عنها . { لأرجمنك } بلساني يعني الشتم والذم أو بالحجارة حتى تموت ، أو تبعد مني . { واهجرني } عطف على ما دل عليه { لأرجمنك } أي فاحذرني . واهجرني { مليا } زمانا طويلا من الملاوة أو مليا بالذهاب عني .
قال آزر وهو تارخ { أراغب أنت عن آلهتي } ، والرغبة ميل النفس ، فقد تكون الرغبة في الشيء وقد تكون عنه ، وقوله { أراغب } رفع بالابتداء و { أنت } فاعل به يسد مسد الخبر وحسن ذلك وقربه اعتماد «راغب » على ألف الاستفهام ، ويجوز أن يكون «راغب » خبراً مقدماً و { أنت } ابتداء والأول أصوب وهو مذهب سيبويه{[7970]} .
وقوله { عن آلهتي } ، يريد الأصنام وكان فيما روي ينحتها وينجرها بيده ويبيعها ويحض عليها فقرر ابنه إبراهيم على رغبته عنها على جهة الإنكار عليه ثم أخذ يتوعده ، وقوله { لأرجمنك } اختلف فيه المتأولون ، فقال السدي وابن جريج والضحاك : معناه بالقول ، أي لأشتمنك { واهجرني } أنت إذا شئت مدة من الدهر ، أو سالماً حسب الخلاف الذي سنذكره . وقال الحسن بن أبي الحسن : معناه { لأرجمنك } بالحجارة ، وقالت فرقة : معناه لأقتلنك ، وهذان القولان بمعنى واحد ، وقوله { واهجرني } على هذا التأويل إنما يترتب بأنه أمر على حياله كأنه قال : إن لم تنته لأقتلنك بالرجم ، ثم قال له { واهجرني } أي مع انتهائك كأنه جزم له الأمر بالهجرة وإلا فمع الرجم لا تترتب الهجرة و { ملياً } معناه دهراً طويلاً مأخوذ من الملوين وهما الليل والنهار وهذا قول الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما فهو ظرف{[7971]} ، وقال ابن عباس وغيره { ملياً } معناه سليماً منا سوياً فهو حال من { إبراهيم } عليه السلام{[7972]} ، وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستبداً بحالك غنياً عني ملياً بالاكتفاء{[7973]} .