حيث { جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أي : يتبع بعضهم بعضا متوالين ، ودعوتهم جميعا واحدة . { أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ } أي : يأمرونهم بالإخلاص للّه ، وينهونهم عن الشرك ، فردوا رسالتهم وكذبوهم ، { قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً } أي : وأما أنتم فبشر مثلنا { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } وهذه الشبهة لم تزل متوارثة بين المكذبين ، من الأمم{[772]} وهي من أوهى الشُّبَهِ ، فإنه ليس من شرط الإرسال ، أن يكون المرسل مَلَكًا ، وإنما شرط الرسالة ، أن يأتي الرسول بما يدل على صدقه ، فَلْيَقْدَحُوا ، إن استطاعوا بصدقهم ، بقادح عقلي أو شرعي ، ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلا .
إنها جولة في مصارع الغابرين ، بعد تلك الجولة في ملكوت السماوات والأرض . جولة تهز القلوب المستكبرة برؤية مصارع المستكبرين :
( إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله ) . .
الكلمة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعين . وقام عليها بنيان كل دين .
( قالوا : لو شاء ربنا لأنزل ملائكة . فإنا بما أرسلتم به كافرون ) . .
وهي كذلك الشبهة المتكررة التي ووجه بها كل رسول . وما كان لرسول يخاطب البشر أن يكون إلا من البشر . يعرفهم ويعرفونه . ويجدون فيه قدوة واقعية ، ويعاني هو ما يعانونه . ولكن عاداً وثمودا أعلنوا كفرهم برسلهم ، لأنهم بشر لا ملائكة كما كانوا يقترحون !
وقوله : إذْ جاءَتُهُمْ الرّسُلُ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ يقول : فقل : أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود التي أهلكتهم ، إذ جاءت عادا وثمود الرسل من بين أيديهم فقوله «إذ » من صلة صاعقة . وعنى بقوله : مِنْ بَينِ أيْدِيهِمْ الرسل التي أتت آباء الذين هلكوا بالصاعقة من هاتين الأمتين . وعنى بقوله : وَمِنْ خَلْفِهِمْ : من خلف الرسل الذين بعثوا إلى آبائهم رسلاً إليهم ، وذلك أن الله بعث إلى عاد هودا ، فكذّبوه من بعد رسل قد كانت تقدمته إلى آبائهم أيضا ، فكذّبوهم ، فأهلكوا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فإن أعْرَضُوا . . . إلى قوله : وَمِنْ خَلْفِهِمْ قال : الرسل التي كانت قبل هود ، والرسل الذين كانوا بعده ، بعث الله قبله رسلاً ، وبعث من بعده رسلاً .
وقوله : ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ اللّهَ يقول تعالى ذكره : جاءتهم الرسل بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له ، قالوا : لَوْ شاءَ رَبّنا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً يقول جلّ ثناؤه : فقالوا لرسلهم إذ دعوهم إلى الإقرار بتوحيد الله : لو شاء ربنا أن نوحده ، ولا نعبد من دونه شيئا غيره ، لأنزل إلينا ملائكة من السماء رسلاً بما تدعوننا أنتم إليه ، ولم يرسلكم وأنتم بشر مثلنا ، ولكنه رضى عبادتنا ما نعبد ، فلذلك لم يرسل إلينا بالنهي عن ذلك ملائكة .
وقوله : فإنّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ يقول : قال لرسلهم : فإنا بالذي أرسلكم به ربكم إلينا جاحدون غير مصدّقين به .
{ إذ جاءتهم الرسل } حال من { صاعقة عاد } ، ولا يجوز جعله صفة ل { صاعقة } أو ظرفا ل { أنذرتكم } لفساد المعنى . { من بين أيديهم ومن خلفهم } أتوهم من جميع جوانبهم واجتهدوا بهم من كل جهة ، أو من جهة الزمن الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار ، ومن جهة المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة ، وكل من اللفظين يحتملهما ، أو من قبلهم ومن بعدهم إذ قد بلغتهم خبر المتقدمين وأخبرهم هود وصالح عن المتأخرين داعين إلى الإيمان بهم أجمعين ، ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة كقوله تعالى : { يأتيها رزقها رغدا من كل مكان } . { ألا تعبدوا إلا الله } بأن لا تعبدوا أو أي لا تعبدوا . { قالوا لو شاء ربنا } إرسال الرسل . { لأنزل ملائكة } برسالته . { فإنا بما أرسلتم به } على زعمكم . { كافرون } إذ أنتم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا .
وقوله : { من بين أيديهم } أي قد تقدموا في الزمن واتصلت نذارتهم إلى أعمار عاد وثمود ، وبهذا الاتصال قامت الحجة .
وقوله : { من خلفهم } أي جاءهم رسول بعد اكتمال أعمارهم وبعد تقدم وجودهم في الزمن ، فلذلك قال : { ومن خلفهم } وجاء من مجموع العبارة إقامة الحجة عليهم في أن الرسالة والنذارة عمَّتهم خبراً ومباشرة ، ولا يتوجه أن يجعل { ومن خلفهم } عبارة عما أتى بعدهم في الزمن ، لأن ذلك لا يلحقهم منه تقصير ، وأما الطبري فقال : الضمير في قوله : { ومن خلفهم } عائد على الرسل ، والضمير في قوله : { من بين أيديهم } على الأمم ، وتابعه الثعلبي ، وهذا غير قوي لأنه يفرق الضمائر ويشعب المعنى . و { أن } في قوله : { ألا تعبدوا } نصب على إسقاط الخافض ، التقدير : «بأن » . و { تعبدوا } مجزوم على النهي ، ويتوجه أن يكون منصوباً على أن تكون { لا } نافية ، وفيه بعد . وكان من تلك الأمم إنكار بعثة البشر واستدعاء الملائكة ، وهذه أيضاً كانت من مقالات قريش .
وقوله : { فإنا بما أرسلتم به } ليس على جهة الإقرار بأنهم أرسلوا بشيء ، وإنما معناه على زعمكم ودعواكم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.