قال تعالى ناعيا حالهم { الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ْ } أي : كأنهم ما أقاموا في ديارهم ، وكأنهم ما تمتعوا في عرصاتها ، ولا تفيئوا في ظلالها ، ولا غنوا في مسارح أنهارها ، ولا أكلوا من ثمار أشجارها ، حين فاجأهم{[319]} العذاب ، فنقلهم من مورد اللهو واللعب واللذات ، إلى مستقر الحزن والشقاء والعقاب والدركات ولهذا قال : { الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ْ } أي : الخسار محصور فيهم ، لأنهم خسروا دينهم وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ألا ذلك هو الخسران المبين ، لا من قالوا لهم : { لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ْ }
ويرد السياق على قولتهم : ( لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون ) . . وهي التي قالوها مهددين متوعدين للمؤمنين بالخسارة ! فيقرر - في تهكم واضح - أن الخسران لم يكن من نصيب الذين اتبعوا شعيباً ، إنما كان من نصيب قوم آخرين :
( الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها . الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين )
ففي ومضة ها نحن أولاء نراهم في دارهم جاثمين . لا حياة ولا حراك . كأن لم يعمروا هذه الدار ، وكأن لم يكن لهم فيها آثار !
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ كَذّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الّذِينَ كَذّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : فأهلك الذين كذّبوا شعيبا فلم يؤمنوا به ، فأبادهم ، فصارت قريتهم منهم خاوية خلاء كأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها يقول : كأن لم ينزلوا قطّ ، ولم يعيشوا بها حين هلكوا ، يقال : غَنِيَ فلان بمكان كذا فهو يَغْنَى به غِنًى وغُنِيّا : إذا نزل به وكان به ، كما قال الشاعر :
وَلَقَدْ يَغْنَى بِهِ جِيرانُكِ ال ***مُمِسْكُو مِنْكِ بعَهْدٍ وَوِصَالِ
***وَعَهْدُ مَغْنَى دِمْنَةٍ بِضَلْفَعا ***
إنما هو مَفْعَل من غَنِي . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : كأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها : كأن لم يعيشوا ، كأن لم ينعموا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : كأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها يقول : كأن لم يعيشوا فيها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كأن لم يكونوا فيها قطّ .
وقوله : الّذِينَ كَذّبُوا شُعَيْبا كانُوا هُمُ الخاسِرِينَ يقول تعالى ذكره : لم يكن الذين اتبعوا شعيبا الخاسرين ، بل الذين كذبوه كانوا هم الخاسرين الهالكين ، لأنه أخبر عنهم جلّ ثناؤه أن الذين كذّبوا شعيبا قالوا للذين أرادوا اتباعه : «لَئِنِ اتّبَعْتُمْ شُعَيْبا إنّكُمْ إذًا لخَاسِرُونَ » فكذّبهم الله بما أحلّ بهم من عاجل نكاله ، ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ما خسر تُبّاع شعيب ، بل كان الذين كذّبوا شعيبا لما جاءت عقوبة الله هم الخاسرين دون الذين صدّقوا وآمنوا به .
وروي أن الله تعالى بعث { شعيباً } إلى أهل مدين وإلى أصحاب ألأيكة ،
وقيل هما طائفتان وقيل واحدة وكانوا مع كفرهم يبخسون الكيل والوزن فدعاهم فكذبوه فجرت بينهم هذه المقاولة المتقدمة ، فلما عتوا وطالت بهم المدة فتح الله عليهم باباً من أبواب جهنم فأهلكهم الحر منه فلم ينفعهم ظل ولا ماء ، ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح وطيبها فتنادوا ، عليكم الظلة ، فلما اجتمعوا تحت الظلة وهي تلك السحابة انطبقت عليهم فأهلكتهم ، قال الطبري : فبلغني أن رجلاً من أهل مدين يقال له عمرو بن جلهاء قال لما رآها : [ البسيط ]
يا قوم إن شعيباً مرسل فذروا*** عنكم سميراً وعمران بن شداد
إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت*** تدعو بصوت على صمّانة الوادي
وإنه لن تروا فيها ضحاة غد*** إلا الرقيم يمشّي بين أنجاد
وسمير وعمران كاهناهم والرقيم كلبهم ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر «شعيباً » قال : ذلك خطيب الأنبياء لقوله لقومه : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } .
قال القاضي أبو محمد : يريد لحسن مراجعته وجميل تلطفه . وحكى الطبري عن أبي عبد الله البجلي أنه قال : أبو جاد ، وهو ز ، وحطي ، وكلمن ، وسعفص وقرشت : أسماء ملوك مدين ، وكان الملك يوم الظلة كلمن ، فقالت أخته ترثيه : [ مجزوء الرمل ]
كلمن قد هد ركني*** ُهْلُكه وسط المحله
سيد القوم أتاه*** حتف نار وسط ظله
جعلت نار عليهم*** دارهم كالمضمحله
قال القاضي أبو محمد : وهذه حكاية مظنون بها والله علم ، وقد تقدم معنى { جاثمين } .
وقوله : { كأن لم يغنوا فيها } لفظ فيه للإخبار عن قوة هلاكهم ونزول النقمة بهم والتنبيه على العبرة بهم ، ونحو هذا قول الشاعر :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** .
و { يغنوا } معناه : يقيموا ويسكنوا .
قال القاضي أبو محمد : وغنيت في المكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش مرضٍ ، هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة فمن ذلك قول الشاعر : [ الوافر ]
وقد نغنى بها ونرى عصوراً*** بها َيْقَتْدننا الُخُرد الخذالا
ولقد يغني بها جيرانك ال*** ممسكون منكم بعهد ووصال
أنشده الطبري ، ومنه قول الآخر : [ الطويل ]
ألا حيّ من أجلِ الحبيبِ المغانيا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** .
غنيت دارنا تهامة في الدهر*** وفيها بنو معد حَلُّولا
ويشبه أن تكون اللفظة من الاستغناء ، وأما قوله : كأن لم تغن بالأمس ففيه هذا المعنى لأن المراد كأن لم تكن ناعمة نضرة مستقلة ، ولا توجد فيما علمت إلا مقترنه بهذا المعنى وأما قول الشاعر : [ الطويل ]
غنينا زماناً بالتصعلك والغنا*** وكلاً سقاناه بكأسيهما الدهرُ
فمعناه استغنينا بذلك ورضيناه مع أن هذه اللفظة ليست مقترنه بمكان .