20- إن ربك يعلم أنك تقوم - يا محمد - أقل من ثلثي الليل أحياناً ، وتقوم نصفه وثلثه أحياناً أخرى ، ويقوم طائفة من أصحابك كما تقوم ، ولا يقدر على تقدير الليل والنهار وضبط ساعاتهما إلا الله . علم أنه لا يمكنكم إحصاء كل جزء من أجزاء الليل والنهار . فخفف عليكم ، فاقرءوا في الصلاة ما تيسر من القرآن . علم أنه سيكون منكم مرضى يشق عليهم قيام الليل ، وآخرون يتنقلون في الأرض للتجارة والعمل يطلبون رزق الله ، وآخرون يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمته ، فاقرءوا ما تيسر من القرآن وواظبوا على فرائض الصلاة ، وأعطوا الزكاة الواجبة عليكم ، وأقرضوا الله قرضاً حسناً بإعطاء الفقراء نافلة فوق ما وجب لهم ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوا ثوابه عند الله هو خيراً مما خلفتم وتركتم ، وأجزل ثواباً ، واستغفروا الله من فعل السيئات والتقصير في الحسنات . إن الله غفور لذنوب المؤمنين ، رحيم بهم .
{ 20 } { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
ذكر الله في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل أو ثلثه أو ثلثيه ، والأصل أن أمته أسوة له في الأحكام ، وذكر في هذا الموضع ، أنه امتثل ذلك هو وطائفة معه من المؤمنين .
ولما كان تحرير الوقت المأمور به مشقة على الناس ، أخبر أنه سهل عليهم في ذلك غاية التسهيل فقال : { وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : يعلم مقاديرهما وما يمضي منهما ويبقى .
{ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ } أي : [ لن ] تعرفوا مقداره من غير زيادة ولا نقص ، لكون ذلك يستدعي انتباها وعناء زائدا أي : فخفف عنكم ، وأمركم بما تيسر عليكم ، سواء زاد على المقدر أو نقص ، { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } أي : مما تعرفون ومما لا يشق عليكم ، ولهذا كان المصلي بالليل مأمورا بالصلاة ما دام نشيطا ، فإذا فتر أو كسل أو نعس ، فليسترح ، ليأتي الصلاة بطمأنينة وراحة .
ثم ذكر بعض الأسباب المناسبة للتخفيف ، فقال : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى } يشق عليهم صلاة ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ، فليصل المريض المتسهل عليه{[1268]} ، ولا يكون أيضا مأمورا بالصلاة قائما عند مشقة ذلك ، بل لو شقت عليه الصلاة النافلة ، فله تركها [ وله أجر ما كان يعمل صحيحا ] . { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } أي : وعلم أن منكم مسافرين يسافرون للتجارة ، ليستغنوا عن الخلق ، ويتكففوا عن الناس{[1269]} أي : فالمسافر ، حاله تناسب التخفيف ، ولهذا خفف عنه في صلاة الفرض ، فأبيح له جمع الصلاتين في وقت واحد ، وقصر الصلاة الرباعية .
وكذلك { آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } فذكر تعالى تخفيفين ، تخفيفا للصحيح المقيم ، يراعي فيه نشاطه ، من غير أن يكلف عليه تحرير الوقت ، بل يتحرى الصلاة الفاضلة ، وهي ثلث الليل بعد نصفه الأول .
وتخفيفا للمريض أو المسافر ، سواء كان سفره للتجارة ، أو لعبادة ، من قتال أو جهاد ، أو حج ، أو عمرة ، ونحو ذلك{[1270]} ، فإنه أيضا يراعي ما لا يكلفه ، فلله الحمد والثناء ، الذي ما جعل على الأمة في الدين{[1271]} من حرج ، بل سهل شرعه ، وراعى أحوال عباده ومصالح دينهم وأبدانهم ودنياهم .
ثم أمر العباد بعبادتين ، هما أم العبادات وعمادها : إقامة الصلاة ، التي لا يستقيم الدين إلا بها ، وإيتاء الزكاة التي هي برهان الإيمان ، وبها تحصل المواساة للفقراء والمساكين ، ولهذا قال :
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } بأركانها ، وشروطها ، ومكملاتها ، { وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } أي : خالصا لوجه الله ، من نية صادقة ، وتثبيت من النفس ، ومال طيب ، ويدخل في هذا ، الصدقة الواجبة ؟ والمستحبة ، ثم حث على عموم الخير وأفعاله فقال : { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا } الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة .
وليعلم أن مثقال ذرة من الخير في هذه الدار ، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا ، وما عليها في دار النعيم المقيم ، من اللذات والشهوات ، وأن الخير والبر في هذه الدنيا ، مادة الخير والبر في دار القرار ، وبذره وأصله وأساسه ، فواأسفاه على أوقات مضت في الغفلات ، وواحسرتاه على أزمان تقضت بغير الأعمال الصالحات ، وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها ، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها منها{[1272]} ، فلك اللهم الحمد ، وإليك المشتكى ، وبك المستغاث ، ولا حول ولا قوة إلا بك .
{ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وفي الأمر بالاستغفار بعد الحث على أفعال الطاعة والخير ، فائدة كبيرة ، وذلك أن العبد ما يخلو من التقصير فيما أمر به ، إما أن لا يفعله أصلا أو يفعله على وجه ناقص ، فأمر بترقيع ذلك بالاستغفار ، فإن العبد يذنب آناء الليل والنهار ، فمتى لم يتغمده الله برحمته ومغفرته ، فإنه هالك .
تم تفسير سورة المزمل{[1273]}
والآن يجيء شطر السورة الثاني في آية واحدة طويلة ، نزلت بعد مطلع السورة بعام على أرجح الأقوال :
إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه ، وطائفة من الذين معك . والله يقدر الليل والنهار . علم أن لن تحصوه فتاب عليكم ، فاقرأوا ما تيسر من القرآن . علم أن سيكون منكم مرضى . وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله . فاقرأوا ما تيسر منه ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وأقرضوا الله قرضا حسنا ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ، واستغفروا الله ، إن الله غفور رحيم . .
إنها لمسة التخفيف الندية ، تمسح على التعب والنصب والمشقة . ودعوة التيسير الإلهي على النبي والمؤمنين . وقد علم الله منه ومنهم خلوصهم له . وقد انتفخت أقدامهم من القيام الطويل للصلاة بقدر من القرآن كبير . وما كان الله يريد لنبيه أن يشقى بهذا القرآن وبالقيام . إنما كان يريد أن يعده للأمر العظيم الذي سيواجهه طوال ما بقي له من الحياة . هو والمجموعة القليلة من المؤمنين الذين قاموا معه .
وفي الحديث مودة وتطمين : ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ) . . إنه رآك ! إن قيامك وصلاتك أنت وطائفة من الذين معك قبلت في ميزان الله . . إن ربك يعلم أنك وهم تجافت جنوبكم عن المضاجع ؛ وتركت دفء الفراش في الليلة القارسة ، ولم تسمع نداء المضاجع المغري وسمعت نداء الله . . إن ربك يعطف عليك ويريد أن يخفف عنك وعن أصحابك . . ( والله يقدر الليل والنهار ) . . فيطيل من هذا ويقصر من ذاك . فيطول الليل ويقصر . وأنت ومن معك ماضون تقومون أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه . وهو يعلم ضعفكم عن الموالاة . وهو لا يريد أن يعنتكم ولا أن يشق عليكم . إنما يريد لكم الزاد وقد تزودتم فخففوا عن أنفسكم ، وخذوا الأمر هينا : فاقرؤوا ما تيسر من القرآن . . في قيام الليل بلا مشقة ولا عنت . . وهناك - في علم الله - أمور تنتظركم تستنفذ الجهد والطاقة ، ويشق معها القيام الطويل : ( علم أن سيكون منكم مرضى ) " يصعب عليهم هذا القيام " ( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ) . . في طلب الرزق والكد فيه ، وهو ضرورة من ضرورات الحياة . والله لا يريد أن تدعوا أمور حياتكم وتنقطعوا لعبادة الشعائر انقطاع الرهبان ! ( وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) . . فقد علم الله أن سيأذن لكم في الإنتصار من ظلمكم بالقتال ، ولإقامة راية للإسلام في الأرض يخشاها البغاة ! فخففوا إذن على أنفسكم ( فاقرأوا ما تيسر منه )بلا عسر ولا مشقة ولا إجهاد . . واستقيموا على فرائض الدين : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) . . وتصدقوا بعد ذلك قرضا لله يبقى لكم خيره . . ( وأقرضوا الله قرضا حسنا ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ) . . واتجهوا إلى الله مستغفرين عن تقصيركم . فالإنسان يقصر ويخطئ مهما جد وتحرى الصواب : ( واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) . .
إنها لمسة الرحمة والود والتيسير والطمأنينة تجيء بعد عام من الدعوة إلى القيام ! ولقد خفف الله عن المسلمين ، فجعل قيام الليل لهم تطوعا لا فريضة . أما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقد مضى على نهجه مع ربه ، لا يقل قيامه عن ثلث الليل ، يناجي ربه ، في خلوة من الليل وهدأة ، ويستمد من هذه الحضرة زاد الحياة وزاد الجهاد . على أن قلبه ما كان ينام وإن نامت عيناه . فقد كان قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] دائما مشغولا بذكر الله ، متبتلا لمولاه . وقد فرغ قلبه من كل شيء إلا من ربه . على ثقل ما يحمل على عاتقه ، وعلى مشقة ما يعاني من الأعباء الثقال . .
وقوله : إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنكَ تَقُومُ أدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللّيْل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن ربك يا محمد يعلم أنك تقوم أقرب من ثلثي الليل مصليا ، ونصفه وثلثه .
اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة بالخفض ونصفه وثلثه بمعنى : وأدنى من نصفه وثلثه ، إنكم لم تطيقوا العمل بما افترض عليكم من قيام الليل ، فقوموا أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه . وقرأ ذلك بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء الكوفة بالنصب ، بمعنى : إنك تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : وَطائِفَةٌ مِنَ الّذِينَ مَعَكَ يعني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا مؤمنين بالله حين فرض عليهم قيام الليل .
وقوله : وَاللّهُ يُقَدّرُ الليْلَ والنهارَ بالساعات والأوقات .
وقوله : عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ يقول : علم ربكم أيها القوم الذين فرض عليهم قيام الليل أن لن تطيقوا قيامه فَتابَ عَلَيْكُمْ إذ عجزتم وضعفتم عنه ، ورجع بكم إلى التخفيف عنكم . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله أنْ لَنْ تُحْصُوهُ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد بن راشد ، عن الحسن عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ أن لن تطيقوه .
حدثني يقعوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرني به عباد بن راشد ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ قال : لن تطيقوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ يقول : أن لن تطيقوه .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ قال : أن لن تطيقوه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خَلّتانِ لا يُحْصِيهُما رَجَلٌ مُسْلمٌ إلاّ أدْخَلَتاهُ الجَنةَ ، وهُمَا يَسِيرٌ ، وَمَنْ يَعْمَلْ بِهما قَلِيلٌ ، يُسَبّحُ اللّهَ فِي دُبُرِ كُلّ صَلاةٍ عَشْرا ، ويَحْمَدُهُ عَشْرا ، ويُكَبّرُهُ عَشْرا » قال : فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده ، قال : «فَتِلكَ خَمُسُونَ وَمِئَةٌ باللّسانِ ، وألْفٌ وخَمْسُ مِئَةٍ فِي المِيزَانِ وَإذَا أوَى إلى فِراشِهِ سَبّحَ وحَمَد وكَبّر مِئَةِ ، قال : فَتِلكَ مِئَةٌ باللّسانِ ، وألْفٌ فِي المِيزَانِ ، فأيّكُمْ يَعْمَلُ فِي اليَوْمِ الوَاحِدِ ألْفَينِ وخَمْسَ مِئَةِ سَيّئَةٍ ؟ » قالوا : فكيف لا نحصيهما ؟ قال : «يأتى أحَدَكُمُ الشيْطانُ وَهُوَ فِي صَلاتِهِ فَيَقُولُ : اذْكُرْ كَذَا ، اذْكُرْ كَذَا حتى يَنْفَتِلَ ، وَلَعَلَهُ لا يَعْقِلُ ، ويأْتِيهِ وَهُوَ فِي مَضْجَعِهِ فَلا يَزَالُ يُنَوّمَهُ حتى يَنامَ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ قيام الليل كتب عليكم فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنَ القُرْآنِ .
وقوله : فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنَ القُرْآنِ يقول : فاقرأوا من الليل ما تيسر لكم من القرآن في صلاتكم وهذا تخفيف من الله عزّ وجلّ عن عباده فرضه الذي كان فرض عليهم بقوله : قُمِ اللّيْلَ إلاّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء محمد ، قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه ، فلا يقوم به ، إنما يصلي المكتوبة ، قال : يتوسد القرآن ، لعن الله ذاك قال الله للعبد الصالح : وَإنّهُ لَذُو عِلْمِ لمَا عَلّمْناهُ وعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قلت : يا أبا سعيد قال الله : فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنَ القُرْآنِ قال : نعم ، ولو خمسين آية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عثمان الهمداني ، عن السديّ ، في قوله : فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنَ القُرْآنِ قال : مئة آية .
قال : ثنا وكيع ، عن ربيع ، عن الحسن ، قال : من قرأ مئة آية في ليلة لم يحاجه القرآن .
قال : ثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن كعب ، قال : من قرأ في ليلة مئة كُتب من العابدين .
وقوله : عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وآخَرُونَ يَضْربُونَ فِي الأرْض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : علم ربكم أيها المؤمنون أن سيكون منكم أهل مرض قد أضعفه المرض عن قيام الليل وآخَرُونَ يَضْربُونَ فِي الأرْضِ في سفر يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ في تجارة قد سافروا لطلب المعاش فأعجزهم ، فأضعفهم أيضا عن قيام الليل وآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ يقول : وآخرون أيضا منكم يجاهدون العدوّ فيقاتلونهم في نُصرة دين الله ، فرحمكم الله فخفف عنكم ، ووضع عنكم فرض قيام الليل فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنْهُ يقول : فاقرءوا الاَن إذ خفف ذلك عنكم من الليل في صلاتكم ما تيسّر من القرآن . والهاء في قوله «منه » من ذكر القرآن . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ثم أنبأ بخصال المؤمنين ، فقال : عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وآخَرُونَ يَضْربُونَ فِي الأرْض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ ، وآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ، فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنْهُ قال : افترض الله القيام في أوّل هذه السورة ، فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ، ثم أنزل التخفيف في آخرها فصار قيام الليل تطوّعا بعد فريضة .
وأقِيمُوا الصّلاةَ يقول : وأقيموا المفروضة وهي الصلوات الخمس في اليوم والليل وآتُوا الزّكاةَ يقول : وأعطوا الزكاة المفروضة في أموالكم أهلها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأقِيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ فهما فريضتان واجبتان ، لا رخصة لأحد فيهما ، فأدّوهما إلى الله تعالى ذكره .
وقوله : وأقْرِضُوا اللّهَ قَرْضا حَسَنا يقول : وانفقوا في سبيل الله من أموالكم .
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وأقْرِضُوا اللّهَ قَرْضَا حَسَنا قال : القرض : النوافل سوى الزكاة .
وقوله : وَما تُقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْرا وأعْظَمَ أجْرا يقول : وما تقدّموا أيها المؤمنون لأنفسكم في دار الدنيا من صدقة أو نفقة تنفقونها في سبيل الله ، أو غير ذلك من نفقة في وجوه الخير ، أو عمل بطاعة الله من صلاة أو صيام أو حجّ ، أو غير ذلك من أعمال الخير في طلب ما عند الله ، تجدوه عند الله يوم القيامة في معادكم ، هو خيرا لكم مما قدّمتم في الدنيا ، وأعظم منه ثوابا : أي ثوابه أعظم من ذلك الذي قدّمتموه لو لم تكونوا قدّمتموه وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ يقول تعالى ذكره : وسلوا الله غفران ذنوبكم يصفح لكم عنها إن اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول : إن الله ذو مغفرة لذنوب من تاب من عباده من ذنوبه ، وذو رحمة أن يعاقبهم عليها من بعد توبتهم منها .
إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه استعار الأدنى للأقل لأن الأقرب إلى الشيء أقل بعدا منه وقرأ ابن كثير والكوفيون ونصفه وثلثه بالنصب عطفا على أدنى وطائفة من الذين معك ويقوم ذلك جماعة من أصحابك والله يقدر الليل والنهار لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلا الله تعالى فإن تقديم اسمه مبتدأ مبنيا عليه يقدر يشعر بالاختصاص ويؤيده قوله علم أن لن تحصوه أي لن تحصوا تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات فتاب عليكم بالترخيص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة فيه كما رفع التبعة عن التائب فاقرؤوا ما تيسر من القرآن فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل عبر عن الصلاة بالقرآن كما عبر عنها بسائر أركانها قيل كان التهجد واجبا على التخيير المذكور فعسر عليهم القيام به فنسخ به ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس أو فاقرؤوا القرآن بعينه كيفما تيسر عليكم علم أن سيكون منكم مرضى استئناف يبين حكمة أخرى مقتضية الترخيص والتخفيف ولذلك كرر الحكم مرتبا عليه وقال وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله والضرب في الأرض ابتغاء للفضل المسافرة للتجارة وتحصيل العلم وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة المفروضة وآتو الزكاة الواجبة وأقرضوا الله قرضا حسنا يريد به الأمر في سائر الانفاقات في سبل الخيرات أو بأداء الزكاة على أحسن وجه والترغيب فيه بوعد العوض كما صرح به في قوله وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت أو من متاع الدنيا و خيرا ثاني مفعولي تجدوه وهو تأكيد أو فصل لأن أفعل من كالمعرفة ولذلك يمتنع من حرف التعريف وقرئ هو خير على الابتداء والخبر واستغفروا الله في مجامع أحوالكم فإن الإنسان لا يخلو من تفريط إن الله غفور رحيم .