40- لا الشمس يتأتى لها أن تخرج على نواميسها فتلحق القمر وتدخل في مداره ، ولا الليل يتأتى له أن يغلب النهار ويحول دون مجيئه ، بل هما متعاقبان . وكل من الشمس والقمر وغيرهما يسبح في فلك لا يخرج عنه{[192]} .
{ وَكُلٌّ } من الشمس والقمر ، والليل والنهار ، قدره [ اللّه ] تقديرا لا يتعداه ، وكل له سلطان ووقت ، إذا وجد عدم الآخر ، ولهذا قال : { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ } أي : في سلطانه الذي هو الليل ، فلا يمكن أن توجد الشمس في الليل ، { وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } فيدخل عليه قبل انقضاء سلطانه ، { وَكُلٌّ } من الشمس والقمر والنجوم { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي : يترددون على الدوام ، فكل هذا دليل ظاهر ، وبرهان باهر ، على عظمة الخالق ، وعظمة أوصافه ، خصوصا وصف القدرة والحكمة والعلم في هذا الموضع .
وأخيراً يقرر دقة النظام الكوني الذي يحكم هذه الأجرام الهائلة ، ويرتب الظواهر الناشئة عن نظامها الموحد الدقيق :
( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ، ولا الليل سابق النهار ، وكل في فلك يسبحون ) . .
ولكل نجم أو كوكب فلك ، أو مدار ، لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه . والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة . فالمسافة بين أرضنا هذه وبين الشمس تقدر بنحو ثلاثة وتسعين مليوناً من الأميال . والقمر يبعد عن الأرض بنحو أربعين ومائتي ألف من الأميال . . وهذه المسافات على بعدها ليست شيئاً يذكر حين تقاس إلى بعد ما بين مجموعتنا الشمسية وأقرب نجم من نجوم السماء الأخرى إلينا . وهو يقدر بنحو أربع سنوات ضوئية . وسرعة الضوء تقدر بستة وثمانين ومائة ألف من الأميال في الثانية الواحدة ! [ أي إن أقرب نجم إلينا يبعد عنا بنحو مائة وأربعة مليون مليون ميل ! ] .
وقد قدر الله خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب . ووضع تصميم الكون على هذا النحو ليحفظه بمعرفته من التصادم والتصدع - حتى يأتي الأجل المعلوم - فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر . والليل لا يسبق النهار ، ولا يزحمه في طريقه ، لأن الدورة التي تجيء بالليل والنهار لا تختل أبداً فلا يسبق أحدهما الآخر أو يزحمه في الجريان !
وحركة هذه الأجرام في الفضاء الهائل أشبه بحركة السفين في الخضم الفسيح . فهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطاً سابحة في ذلك الفضاء المرهوب .
وإن الإنسان ليتضاءل ويتضاءل ، وهو ينظر إلى هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة ، والكواكب السيارة . متناثرة في ذلك الفضاء ، سابحة في ذلك الخضم ، والفضاء من حولها فسيح فسيح وأحجامها الضخمة تائهة في ذلك الفضاء الفسيح ! ! !
وقوله : لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَها أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ يقول تعالى ذكره : لا الشمس يصلح لها إدراك القمر ، فيذهب ضوؤها بضوئه ، فتكون الأوقات كلها نهارا لا ليل فيها وَلا اللّيْلُ سابِقُ النّهارِ يقول تعالى ذكره : ولا الليل بفائت النهار حتى تذهب ظلمته بضيائه ، فتكون الأوقات كلها ليلاً .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في ألفاظهم في تأويل ذلك ، إلا أن معاني عامتهم الذي قلناه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد في قوله : لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ قال : لا يشبه ضَوءُها ضوء الاَخر ، لا ينبغي لها ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ قال : لا يُشبه ضوء أحدهما ضوء الاَخر ، ولا ينبغي ذلك لهما . وفي قوله : وَلا اللّيْلُ سابِقُ النّهار قال : يتطالبان حَثيثين ينسلخ أحدهما من الاَخر .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا الأشجعيّ ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح : لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا اللّيْلُ سابِقُ النّهارِ قال : لا يدرك هذا ضوءَ هذا ولا هذا ضوء هذا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وهذا في ضوء القمر وضوء الشمس ، إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء ، وإذا طلع القمر بضوئه لم يكن للشمس ضوء ولاَ اللّيْلُ سابِقُ النّهارِ قال : في قضاء الله وعلمه أن لا يفوت الليل النهار حتى يدركه ، فيذهب ظلمته ، وفي قضاء الله أن لا يفوت النهار الليل حتى يدركه ، فيذهب بضوئه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا اللّيْلُ سابِقُ النّهارِ ولكلَ حدّ وعلم لا يعدوه ، ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ، ذهب سلطان هذا ، وإذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا . ورُوي عن ابن عباس في ذلك ما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا اللّيْلُ سابِقُ النّهارِ يقول : إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الاَخر ، فإذا غابا غاب أحدهما بين يدي الاَخر .
وأن من قوله : أنْ تُدْرِكَ في موضع رفع بقوله : ينبغي . وقوله : وكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يقول : وكلّ ما ذكرنا من الشمس والقمر والليل والنهار في فلك يَجْرُون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس وكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ قال : في فلك كفلك المِغْزَل .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال : مجرى كلّ واحد منهما ، يعني الليل والنهار ، في فَلَك يسبحون : يجرون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ : أي في فلك السماء يسبحون .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ دورانا ، يقول : دورانا يسبحون يقول : يجرون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يعني : كلّ في فلك في السموات .