{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }
أي : ولقد تقرر عندكم حالة { الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ } وهم الذين ذكر الله قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف في قوله : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } الآيات .
فأوجب لهم هذا الذنب العظيم ، أن غضب الله عليهم وجعلهم { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } حقيرين ذليلين .
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }
يعني بقوله : وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ ولقد عرفتم ، كقولك : قد علمت أخاك ولم أكن أعلمه ، يعني عرفته ولم أكن أعرفه ، كما قال جل ثناؤه : وآخَرِين مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ ، يعني : لا تعرفونهم الله يعرفهم . وقوله : الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السّبْتِ أي الذين تجاوزوا حدي وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت وعصوا أمري . وقد دللت فيما مضى على أن الاعتداء أصله تجاوز الحدّ في كل شيء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
قال : وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها ، مما عدّد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه ما كانوا يبرمون من العقود ، وحذّر المخاطبين بها أن يحلّ بهم بإصرارهم على كفرهم ومقامهم على جحود نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وتركهم أتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه ، مثل الذي حلّ بأوائلهم من المسخ والرّجْف والصّعْق ، وما لا قِبَل لهم به من غضب الله وسخطه . كالذي :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذِينَ اعْتَدَوْا مِنُكُمْ فِي السّبْتِ يقول : ولقد عرفتم وهذا تحذير لهم من المعصية ، يقول : احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت إذ عصوني ، اعتدوا يقول اجترءوا في السبت . قال : لم يبعث الله نبيا إلا أمره بالجمعة وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة ، وأن الساعة تقوم فيها ، فمن اتبع الأنبياء فيما مضى كما اتبعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم محمدا قبل الجمعة وسمع وأطاع وعرف فضلها وثبت عليها بما أمره الله تعالى به ونبيه صلى الله عليه وسلم ، ومن لم يفعل ذلك كان بمنزلة الذين ذكر الله في كتابه ، فقال : وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الّذِينَ اعْتَدُوا مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنا لهُمْ كُونُوا قِردَةً خاسِئِينَ . وذلك أن اليهود قالت لموسى حين أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها : يا موسى كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها ، والسبت أفضل الأيام كلها لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام وسَبَت له كل شيء مطيعا يوم السبت ، وكان آخر الستة ؟ قال : وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم حين أمرهم بالجمعة ، قالوا له : كيف تأمرنا بالجمعة ، وأوّل الأيام أفضلها وسيدها ، والأول أفضل ، والله واحد ، والواحد الأول أفضل ؟ فأوحى الله إلى عيسى أن دعهم والأحد ، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا مما أمرهم به . فلم يفعلوا ، فقصّ الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم . قال : وكذلك قال الله لموسى حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت : أن دعهم والسبت فلا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره ، ولا يعملون شيئا كما قالوا . قال : فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء فهو قوله : إذْ تأتِيهمْ حِيتانُهُمْ يَوْم سَبتِهمْ شُرّعا يقول : ظاهرة على الماء ، ذلك لمعصيتهم موسى . وإذا كان غير يوم السبت صارت صيدا كسائر الأيام ، فهو قوله : وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تأتِيهِمْ . ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله فلما رأوها كذلك طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة ، فتناول بعضهم منها فلم تمتنع عليه ، وحذر العقوبة التي حذّرهم موسى من الله تعالى . فلما رأوا أن العقوبة لا تحلّ بهم عادوا وأخبر بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شيء ، فكثروا في ذلك وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلاً ، وهو قول الله جل ثناؤه : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَوا مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خاسِئِينَ يقول لهؤلاء الذين صادوا السمك ، فمسخهم الله قردة بمعصيتهم ، يقول : إذا لم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام ، ولم تأكل ، ولم تشرب ، ولم تنسل ، وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكر الله في كتابه ، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة ، وكذلك يفعل بمن شاء كما يشاء ، ويحوّله كما يشاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، قال : قال ابن عباس : إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم فى عيدكم يوم الجمعة ، فخالفوا إلى السبت فعظموه وتركوا ما أمروا به ، فلما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه ، فحرّم عليهم ما أحلّ لهم في غيره . وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها «مَدْيَن » ، فحرّم الله عليهم في السبت الحيتان صيدها وأكلها ، وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شُرّعا إلى ساحل بحرهم ، حتى إذا ذهب السبت ذهبن ، فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا . حتى إذا كان يوم السبت أتين إليهم شرّعا ، حتى إذا ذهب السبت ذهبن . فكانوا كذلك ، حتى إذا طال عليهم الأمد وقَرِموا إلى الحيتان ، عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرّا يوم السبت فخَزَمه بخيط ، ثم أرسله في الماء ، وأوتَد له وتدا في الساحل ، فأوثقه ثم تركه . حتى إذا كان الغد جاء فأخذه أي إني لم آخذه في يوم السبت ، ثم انطلق به فأكله . حتى إذا كان يوم السبت الاَخر عاد لمثل ذلك . ووجد الناس ريح الحيتان . فقال أهل القرية : والله لقد وجدنا ريح الحيتان . ثم عثروا على ما صنع ذلك الرجل . قال : ففعلوا كما فعل ، وأكلوا سرّا زمانا طويلاً لم يعجل الله عليهم بعقوبة حتى صادوها علانية وباعوها بالأسواق ، وقالت طائفة منهم من أهل التقية : ويحكم اتقوا الله ونهوهم عما كانوا يصنعون . وقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان ولم تنه القوم عما صنعوا : ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أو مُعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قالُوا مَعْذِرة إلى ربّكُمْ ) لسخطنا أعمالهم ولعلهم يتقون .
قال ابن عباس : فبينما هم على ذلك أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم ، وفقدوا الناس فلا يرونهم ، فقال بعضهم لبعض : إن للناس لشأنا فانظروا ما هو فذهبوا ينظرون في دورهم ، فوجدوها مغلقة عليهم ، قد دخلوا ليلاً فغلقوها على أنفسهم كما تغلق الناس على أنفسهم ، فأصبحوا فيها قردة ، إنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد ، والمرأة بعينها وإنها لقردة ، والصبي بعينه وإنه لقرد .
قال : يقول ابن عباس : فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء لقلنا أهلك الجميع منهم . قالوا : وهي القرية التي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : واسألْهُمْ عنِ القَرْيَةِ الّتِي كانَتْ حاضرةَ البَحْرِ الآية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِين اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قردة خاسِئِينَ أحلت لهم الحيتان وحرمت عليهم يوم السبت بلاءً من الله ليعلم من يطيعه ممن يعصيه . فصار القوم ثلاثة أصناف : فأما صنف فأمسك ونهى عن المعصية ، وأما صنف فأمسك عن حرمة الله ، وأما صنف فانتهك حرمة الله ومرَد على المعصية ، فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه ، قال الله لهم : كُونُوا قِرَدَة خاسِئِينَ فصاروا قردة لها أذنابٌ ، تَعَاوَى ، بعد ما كانوا رجالاً ونساء .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السّبْت قال : نُهوا عن صيد الحيتان يوم السبت ، فكانت تشرع إليهم يوم السبت ، وبُلوا بذلك فاعتدوا فاصطادوها ، فجعلهم الله قردة خاسئين .
حدثني موسى قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ولَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِين اعْتَدَوْا مِنْكُمْ في السّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِردة خاسِئِينَ قال : فهم أهل أيلة ، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر . فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت وقد حرّم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا لم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء ، فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت . فذلك قوله : وَاسألْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الّتِي كانَتْ حاضِرَة البَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِي السّبْتِ إذْ تأتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعا ويَوْمَ لا يَسْبِتُون لا تأتِيهِمْ . فاشتهى بعضهم السمك ، فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر ، فإذا كان يوم السبت فتح النهر ، فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة ، ويريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر ، فيمكث ، فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه . فجعل الرجل يشوي السمك ، فيجد جاره ريحه ، فيسأله فيخبره فيصنع مثل ما صنع جاره . حتى إذا فشا فيهم أكل السمك قال لهم علماؤهم : ويحكم إنما تصطادون السمك يوم السبت ، وهو لا يحلّ لكم فقالوا : إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه ، فقال الفقهاء : لا ، ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل فقالوا : لا . وعتوا أن ينتهوا ، فقال بعض الذين نهوهم لبعض : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مهْلِكُهُمْ أوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا يقول : لم تعظونهم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم ؟ فقال بعضهم : مَعْذِرةً إلَى رَبّكُمْ ولعلّهم يَتّقُون . فلما أبوا قال المسلمون : والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار ، ففتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا ، ولعنهم داود . فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفار بابهم ، فلما أبطئوا عليهم تسوّر المسلمون عليهم الحائط ، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض ، ففتحوا عنهم فذهبوا في الأرض . فذلك قول الله عز وجل : فَلَمّا عَتَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فذلك حين يقول : لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ على لِسانِ دَاوُدَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فهم القردة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ قال : لم يمسخوا إنما هو مثل ضربه الله لهم مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خَاسِئِينَ قال : مسخت قلوبهم ، ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا .
وهذا القول الذي قاله مجاهد قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف ، وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ، كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيم : أرِنا اللّهَ جَهْرَةً وأن الله تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم وأنهم عبدوا العجل ، فجعل توبتهم قتل أنفسهم ، وأنهم أُمروا بدخول الأرض المقدسة ، فقالوا لنبيهم : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ فابتلاهم بالتيه . فسواء قال قائل : هم لم يمسخهم قردة ، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير ، وآخر قال : لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم من الخلاف على أنبيائهم والعقوبات والأنكال التي أحلها الله بهم . ومن أنكر شيئا من ذلك وأقرّ بآخر منه ، سئل البرهان على قوله وعورض فيما أنكر من ذلك بما أقرّ به ، ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح . هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه ، وكفى دليلاً على فساد قول إجماعها على تخطئته .
القول في تأويل قوله تعالى : فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خاسِئِينَ .
يعني بقوله : فَقُلْنَا لَهُمْ أي فقلنا للذين اعتدوا في السبت يعني في يوم السبت . وأصل السبت الهدوّ والسكون في راحة ودعة ، ولذلك قيل للنائم مسبوت لهدوّه وسكون جسده واستراحته ، كما قال جل ثناؤه : وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتا أي راحة لأجسادكم ، وهو مصدر من قول القائل : سبت فلان يسبُتُ سَبْتا . وقد قيل إنه سمي سبتا لأن الله جل ثناؤه فرغ يوم الجمعة ، وهو اليوم الذي قبله ، من خلق جميع خلقه .
وقوله : كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِين أي صيروا كذلك . والخاسىء : المبعد المطرود كما يخسأ الكلب ، يقال منه : خسأته أخسؤه خَسْأً وخُسوءا ، وهو يخسأ خُسوءا ، قال : ويقال خسأته فخسأ وانخسأ ، ومنه قول الراجز :
*** كالكَلْبِ إنْ قُلْتَ لَهُ اخْسأ انْخَسأْ ***
يعني إن طردته انطرد ذليلاً صاغرا . فكذلك معنى قوله : كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي مبعدين من الخير أذلاء صغراء . كما :
حدثنا بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ قال : صاغرين .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : خاسِئِينَ قال : صاغرين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي أذلة صاغرين .
وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : خاسئا : يعني ذليلاً .
هذه من جملة الأخبار التي ذكرها الله تعالى تذكيراً لليهود بما أتاه سلفهم من الاستخفاف بأوامر الله تعالى وبما عرض في خلال ذلك من الزواجر والرحمة والتوبة ، وإنما خالف في حكاية هاته القصة أسلوب حكاية ما تقدمها وما تلاها من ذِكر { إذ } [ البقرة : 63 ] المؤذنة بزمن القصة والمشعرة بتحقق وقوعها إلى قوله هنا : { ولقد علمتم } لمعنى بديع هو من وجوه إعجاز القرآن وذلك أن هذه القصة المشار إليها بهذه الآية ليست من القصص التي تضمنتها كتب التوراة مثل القصص الأخرى المأتي في حكايتها بكلمة ( إذ ) لأنها متواترة عندهم بل هذه القصة وقعت في زمن داود عليه السلام ، فكانت غير مسطورة في الأسفار القديمة وكانت معروفة لعلمائهم وأحبارهم فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عليها وتلك معجزة غيبية وأوحى إليه في لفظها ما يؤذن بأن العلم بها أخفى من العلم بالقصص الأخرى فأسند الأمر فيها لعلمهم إذ قال : { ولقد علمتم } .
والاعتداء وزنه افتعال من العدو وهو تجاوز حد السير والحد والغاية . وغلب إطلاق الاعتداء على مخالفة الحق وظلم الناس والمراد هنا اعتداء الأمر الشرعي لأن الأمر الشرعي يشبَّه بالحد في أنه يؤخذ بما شمله ولا يؤخذ بما وراءه والاعتداء الواقع منهم هو اعتداء أمر الله تعالى إياهم من عهد موسى بأن يحافظوا على حكم السبت وعدم الاكتساب فيه ليتفرغوا فيه للعبادة بقلب خالص من الشغل بالدنيا ، فكانت طائفة من سكان أَيلة{[138]} على البحر رأوا تكاثر الحيتان يوم السبت بالشاطىء لأنها إذا لم تر سفن الصيادين وشباكهم أمنت فتقدمت إلى الشاطىء تفتح أفواهها في الماء لابتلاع ما يكون على الشواطىء من آثار الطعام ومن صغير الحيتان وغيرها فقالوا لو حفرنا لها حياضاً وشرعنا إليها جداول يوم الجمعة فتمسك الحياض الحوت إلى يوم الأحد فنصطادها وفعلوا ذلك فغضب الله تعالى عليهم لهذا الحرص على الرزق أو لأنهم يشغلون بالهم يوم السبت بالفكر فيما تحصّل لهم أو لأنهم تحيلوا على اعتياض العمل في السبت ، وهذا الذي أحسبه لما اقترن به من الاستخفاف واعتقادهم أنهم علموا ما لم تهتد إليه شريعتهم فعاقبهم الله تعالى بما ذكره هنا .
فقوله : { في السبت } يجوز أن تكون { في } للظرفية . والسبت مصدر سَبَتَ اليهودي من باب ضرب ونصر بمعنى احترم السبت وعظمه . والمعنى اعتدوا في حال تعظيم السبت أو في زمن تعظيم السبت . ويجوز أن تكون { في } للعلة أي اعتدوا اعتداء لأجل ما أوجبه احترام السبت من قطع العمل . ولعل تحريم الصيد فيه ليكون أمناً للدواب .
ويجوز أن تكون { في } ظرفية والسبت بمعنى اليوم وإنما جعل الاعتداء فيه مع أن الحفر في يوم الجمعة لأن أثره الذي ترتب عليه العصيان وهو دخول الحيتان للحياض يقع في يوم السبت .
وقوله : { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين } : { كونوا } أمر تكوين والقردة بكسر القاف وفتح الراء جمع قرد وتكوينهم قردة يحتمل أن يكون بتصيير أجسامهم أجسام قردة مع بقاء الإدراك الإنساني وهذا قول جمهور العلماء والمفسرين ، ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول القردة مع بقاء الهيكل الإنساني ، وهذا قول مجاهد والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين والأول أظهر في العبرة لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني والثاني أقرب للتاريخ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين ، والقدرة صالحة للأمرين والكل معجزة للشريعة أو لداود ولذلك قال الفخر : ليس قول مجاهد ببعيد جداً لكنه خلاف الظاهر من الآية وليس الآية صريحة في المسخ .
ومعنى كونهم قردة أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها وأخذوا بصورة الألفاظ فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات .
ثم إن القائلين بوقوع المسخ في الأجسام اتفقوا أو كادوا على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام وأنه لا يتناسل وروى ذلك ابن مسعود عن النبيء صلى الله عليه وسلم في « صحيح مسلم » أنه قال : " لم يهلك الله قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً " وهو صريح في الباب ومن العلماء من جوز تناسل الممسوخ وزعموا أن الفيل والقرد والضب والخنزير من الأمم الممسوخة وقد كانت العرب تعتقد ذلك في الضب قال أحد بني سليم وقد جاء لزوجه بضب فأبت أن تأكله :
قالت وكنت رجلاً فطيناً *** هذا لعمر الله إسرائينا
حتى قال بعض الفقهاء بحرمة أكل الفيل ونحوه بناء على احتمال أن أصله نسل آدمي قال ابن الحاجب « وأما ما يذكر أنه ممسوخ كالفيل والقرد والضب ففي المذهب الجواز لعموم الآية والتحريم لما يذكر » أي لعموم آية المأكولات ، وصحح صاحب « التوضيح » عن مالك الجواز وقد روى مسلم في أحاديث متفرقة من آخر « صحيحه » عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أُراها إلا الفأر ، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته " اهـ . وقد تأوله ابن عطية وابن رشد في « البيان » وغير واحد من العلماء بأن هذا قاله النبيء صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد قبل أن يوقفه الله على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ولا يتناسل كما هو صريح حديث ابن مسعود ، قلت : يؤيد هذا أنه قال عن اجتهاد قوله : « ولا أُراها » .
ولا شك أن هاته الأنواع من الحيوان موجودة قبل المسخ وأن المسخ إليها دليل على وجودها ومعرفة الناس بها .
وهذا الأمر التكويني كان لأجل العقوبة على ما اجترأوا من الاستخفاف بالأمر الإلهي حتى تحيلوا عليه وفي ذلك دليل على أن الله تعالى لا يرضى بالحيل على تجاوز أوامره ونواهيه فإن شرائع الله تعالى مشروعة لمصالح وحكم فالتحيل على خرق تلك الحكم بإجراء الأفعال على صور مشروعة مع تحقق تعطيل الحكمة منها جراءة ، على الله تعالى ، ولا حجة لمن ينتحل جواز الحيل بقوله تعالى في قصة أيوب : { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث } [ ص : 44 ] لأن تلك فتوى من الله تعالى لنبيء لتجنب الحنث الذي قد يتفادى عنه بالكفارة ولكن الله لم يرض أصل الحنث لنبيه لأنه خلاف الأولى فأفتاه بما قاله ، وذلك مما يعين على حكمة اجتناب الحنث لأن فيه محافظة على تعظيم اسم الله تعالى فلا فوات للحكمة في ذلك ، ومسألة الحيل الشرعية لعلنا نتعرض لها في سورة ص وفيها تمحيص .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الذين اعتدوا منكم في السبت}، فصادوا فيه السمك، وكان محرما عليهم صيد السمك يوم السبت...
{كونوا قردة خاسئين}، يعني صاغرين...
روى أشهب عن مالك قال: زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطا ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد، ثم تطرق الناس حين رأوا من صَنَع لا يُبْتَلَى، حتى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
" وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ": ولقد عرفتم...
"الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السّبْتِ": أي الذين تجاوزوا حدي وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت وعصوا أمري. وقد دللت فيما مضى على أن الاعتداء أصله تجاوز الحدّ في كل شيء.
وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها، مما عدّد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه ما كانوا يبرمون من العقود، وحذّر المخاطبين بها أن يحلّ بهم بإصرارهم على كفرهم ومقامهم على جحود نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وتركهم أتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه، مثل الذي حلّ بأوائلهم من المسخ والرّجْف والصّعْق، وما لا قِبَل لهم به من غضب الله وسخطه... عن ابن عباس: "وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذِينَ اعْتَدَوْا مِنُكُمْ فِي السّبْتِ "يقول: ولقد عرفتم وهذا تحذير لهم من المعصية، يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت إذ عصوني، اعتدوا يقول اجترأوا في السبت. قال: لم يبعث الله نبيا إلا أمره بالجمعة وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة، وأن الساعة تقوم فيها، فمن اتبع الأنبياء فيما مضى كما اتبعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، قبل الجمعة وسمع وأطاع وعرف فضلها وثبت عليها بما أمره الله تعالى به ونبيه صلى الله عليه وسلم، ومن لم يفعل ذلك كان بمنزلة الذين ذكر الله في كتابه، فقال: "وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الّذِينَ اعْتَدُوا مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنا لهُمْ كُونُوا قِردَةً خاسِئِينَ". وذلك أن اليهود قالت لموسى حين أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها: يا موسى كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها، والسبت أفضل الأيام كلها لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام وسَبَت له كل شيء مطيعا يوم السبت، وكان آخر الستة؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم حين أمرهم بالجمعة، قالوا له: كيف تأمرنا بالجمعة، وأوّل الأيام أفضلها وسيدها، والأول أفضل، والله واحد، والواحد الأول أفضل؟ فأوحى الله إلى عيسى أن دعهم والأحد، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا مما أمرهم به. فلم يفعلوا، فقصّ الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم. قال: وكذلك قال الله لموسى حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت: أن دعهم والسبت فلا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره، ولا يعملون شيئا كما قالوا. قال: فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء فهو قوله: "إذْ تأتِيهمْ حِيتانُهُمْ يَوْم سَبتِهمْ شُرّعا" يقول: ظاهرة على الماء، ذلك لمعصيتهم موسى. وإذا كان غير يوم السبت صارت صيدا كسائر الأيام، فهو قوله: "وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تأتِيهِمْ". ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله، فلما رأوها كذلك، طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة، فتناول بعضهم منها فلم تمتنع عليه، وحذر العقوبة التي حذّرهم موسى من الله تعالى. فلما رأوا أن العقوبة لا تحلّ بهم، عادوا وأخبر بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شيء، فكثروا في ذلك وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلاً، وهو قول الله جل ثناؤه: "وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَوا مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خاسِئِينَ": يقول لهؤلاء الذين صادوا السمك، فمسخهم الله قردة بمعصيتهم... وكذلك يفعل بمن شاء كما يشاء، ويحوّله كما يشاء...
عن قتادة قوله: "وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِين اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قردة خاسِئِينَ" أحلت لهم الحيتان وحرمت عليهم يوم السبت بلاءً من الله ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصناف: فأما صنف فأمسك ونهى عن المعصية، وأما صنف فأمسك عن حرمة الله، وأما صنف فانتهك حرمة الله ومرَد على المعصية، فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه، قال الله لهم: كُونُوا قِرَدَة خاسِئِينَ فصاروا قردة لها أذنابٌ، تَعَاوَى، بعد ما كانوا رجالاً ونساء...
عن مجاهد: "وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خَاسِئِينَ" قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وهذا القول الذي قاله مجاهد قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف، وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم: "أرِنا اللّهَ جَهْرَةً" وأن الله تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم وأنهم عبدوا العجل، فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أُمروا بدخول الأرض المقدسة، فقالوا لنبيهم: "اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ" فابتلاهم بالتيه. فسواء قال قائل: هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير، وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم من الخلاف على أنبيائهم والعقوبات والأنكال التي أحلها الله بهم. ومن أنكر شيئا من ذلك وأقرّ بآخر منه، سئل البرهان على قوله وعورض فيما أنكر من ذلك بما أقرّ به، ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح. هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه، وكفى دليلاً على فساد قول إجماعها على تخطئته.
"فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خاسِئِينَ": فَقُلْنَا لَهُمْ: أي فقلنا للذين اعتدوا في السبت، يعني في يوم السبت. وأصل السبت الهدوّ والسكون في راحة ودعة، ولذلك قيل للنائم مسبوت لهدوّه وسكون جسده واستراحته، كما قال جل ثناؤه: "وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتا" أي راحة لأجسادكم، وهو مصدر من قول القائل: سبت فلان يسبُتُ سَبْتا. وقد قيل إنه سمي سبتا لأن الله جل ثناؤه فرغ يوم الجمعة، وهو اليوم الذي قبله، من خلق جميع خلقه.
"كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِين": أي صيروا كذلك. والخاسئ: المبعد المطرود كما يخسأ الكلب، "كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ" أي مبعدين من الخير أذلاء صغراء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
و {السبت} مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت. وإن ناساً منهم اعتدوا فيه أي جاوزوا ما حدّ لهم فيه من التجرّد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد. وذلك أن الله ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت، فإذا مضى تفرّقت. كما قال: {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كذلك نَبْلُوهُم} [الأعراف: 163] فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد. فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم. {قِرَدَةً خاسئين} خبران أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء، وهو الصغار والطرد .
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{في السبت} معناه في يوم السبت، ويحتمل أن يريد في حكم السبت، و {السبت} مأخوذ إما: من السبوت الذي هو الراحة والدعة، وإما من السبت وهو: القطع، لأن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها.
و {كونوا} لفظة أمر، وهو أمر التكوين، كقوله تعالى لكل شيء: {كن فيكون} [النحل: 40 مريم: 35، يس: 82، غافر: 68]، ولم يؤمروا في المصير إلى حال المسخ بشيء يفعلونه ولا لهم فيه تكسب.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} يا معشر اليهود، ما حل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذ كان مشروعًا لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت، بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت. فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة.
فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم. وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أباح الله تعالى لبني إسرائيل العمل في ستة أيام من الأسبوع وحظر عليهم العمل في يوم واحد وهو يوم السبب، وفرض عليهم في هذا اليوم الاجتهاد في الأعمال الدينية إحياء للشعور الديني في قلوبهم، وإضعافا لشرههم في جمع الحطام وحبهم للدنيا، فتجاوز طائفة منهم حدود الله في السبت واعتدوها، فكان جزاؤهم على ذلك جزاء من لم يرض نفسه بآداب الدين، وجزاء مثله هو الخروج من محيط الكمال الإنساني، والرتوع في مراتع البهيمية، كالقرد في نزواته، والخنزير في شهواته، وقد سجل الله تعالى عليهم ذلك بحكم سنة الفطرة، والنواميس التي أقام بها نظام الخليقة، وذلك قوله عز وجل {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت} أي وأقسم أنكم لقد علمتم نبأ الذين تجاوزوا حدود حكم الكتاب في ترك العمل الدنيوي يوم السبت – وسيأتي نبؤهم مفصلا في سورة الأعراف {فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى {62: 5 مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} ومثل هذا قوله تعالى {5: 60 وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت} والخسوء هو الطرد والصغار. والأمر للتكوين، أي فكانوا بحسب سنة الله في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس: والمعنى أن هذا الاعتداء الصريح لحدود هذه الفريضة قد جرأهم على المعاصي والمنكرات بلا خجل ولا حياء حتى صار كرام الناس يحتقرونهم ولا يرونهم أهلا لمجالستهم ومعاملتهم.
وذهب جمهور المفسرين: إلى أن تلك القرية أيلة وقيل طبرية أو مدين وقالوا إن ذلك كان في زمن داود عليه السلام، والقرآن لم يعين المكان ولا الزمان، والعبرة المقصودة لا تتوقف على تعيين هذه الجزئيات، فالحجة فيما ذكر قائمة على بني إسرائيل ومبينة أن مجاحدتهم ومعاندتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ليست بدعا من أمرهم. ثم أنها عبرة بينة لكل من يفسق عن أمر ربه فيتخذ إلهه هواه ويعيش عيشة بهيمية.
وذهب الجمهور أيضا إلى أن معنى (كونوا قردة) إن صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين، والآية ليست نصا فيه ولم يبق إلا النقل ولو صح لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله لا يمسخ كل عاص فيخرجه عن نوع الإنسان، إذ ليس ذلك من سننه في خلقه، وإنما العبرة الكبرى في العلم بأن من سنن الله تعالى في الذين خلوا من قبل: أن من يفسق عن أمر ربه، ويتنكب الصراط الذي شرعه له، ينزل عن مرتبة الإنسان ويلتحق بعجماوات الحيوان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه من جملة الأخبار التي ذكرها الله تعالى تذكيراً لليهود بما أتاه سلفهم من الاستخفاف بأوامر الله تعالى وبما عرض في خلال ذلك من الزواجر والرحمة والتوبة، وإنما خالف في حكاية هاته القصة أسلوب حكاية ما تقدمها وما تلاها من ذِكر {إذ} [البقرة: 63] المؤذنة بزمن القصة والمشعرة بتحقق وقوعها إلى قوله هنا: {ولقد علمتم} لمعنى بديع هو من وجوه إعجاز القرآن وذلك أن هذه القصة المشار إليها بهذه الآية ليست من القصص التي تضمنتها كتب التوراة مثل القصص الأخرى المأتي في حكايتها بكلمة (إذ) لأنها متواترة عندهم بل هذه القصة وقعت في زمن داود عليه السلام، فكانت غير مسطورة في الأسفار القديمة وكانت معروفة لعلمائهم وأحبارهم، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عليها وتلك معجزة غيبية، وأوحى إليه في لفظها ما يؤذن بأن العلم بها أخفى من العلم بالقصص الأخرى فأسند الأمر فيها لعلمهم إذ قال: {ولقد علمتم}.
ومعنى كونهم قردة أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها وأخذوا بصورة الألفاظ فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات. ثم إن القائلين بوقوع المسخ في الأجسام اتفقوا أو كادوا على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام وأنه لا يتناسل وروى ذلك ابن مسعود عن النبيء صلى الله عليه وسلم في « صحيح مسلم» أنه قال:"لم يهلك الله قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً" وهو صريح في الباب...
["كونوا"]... وهذا الأمر التكويني كان لأجل العقوبة على ما اجترأوا من الاستخفاف بالأمر الإلهي حتى تحيلوا عليه، وفي ذلك دليل على أن الله تعالى لا يرضى بالحيل على تجاوز أوامره ونواهيه، فإن شرائع الله تعالى مشروعة لمصالح وحكم، فالتحيل على خرق تلك الحكم بإجراء الأفعال على صور مشروعة مع تحقق تعطيل الحكمة منها جراءة على الله تعالى، ولا حجة لمن ينتحل جواز الحيل بقوله تعالى في قصة أيوب: {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث} [ص: 44] لأن تلك فتوى من الله تعالى لنبيء لتجنب الحنث الذي قد يتفادى عنه بالكفارة، ولكن الله لم يرض أصل الحنث لنبيه لأنه خلاف الأولى فأفتاه بما قاله، وذلك مما يعين على حكمة اجتناب الحنث لأن فيه محافظة على تعظيم اسم الله تعالى فلا فوات للحكمة في ذلك..