{ وَإِنَّهُ } أي : الإنسان { لِحُبِّ الْخَيْرِ } أي : المال { لَشَدِيدُ } أي : كثير الحب للمال .
وحبه لذلك ، هو الذي أوجب له ترك الحقوق الواجبة عليه ، قدم شهوة نفسه على حق{[1470]} ربه ، وكل هذا لأنه قصر نظره على هذه الدار ، وغفل عن الآخرة ، ولهذا قال حاثًا له على خوف يوم الوعيد :{ أَفَلَا يَعْلَمُ }
وقوله : { وَإنّهُ لِحُبّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ } يقول تعالى ذكره : وإن الإنسان لحبّ المال لشديد .
واختلف أهل العربية في وجه وصفه بالشدّة لحبّ المال ، فقال بعض البصريين : معنى ذلك : وإنه من أجل حبّ الخير لشديد : أي لبخيل ، قال : يقال للبخيل : شديد ومتشدّد . واستشهدوا لقوله ذلك ببيت طَرَفة بن العبد اليشكري :
أرَى المَوْتَ يَعْتامُ النّفُوسَ ويَصْطَفِي *** عَقِيلَةَ مالِ الباخِلِ المُتَشَدّدِ
وقال آخرون : معناه : وإنه لحبّ الخير لقويّ .
وقال بعض نحوييّ الكوفة : كان موضع ( لحُبّ ) أن يكون بعد شديد ، وأن يضاف شديد إليه ، فيكون الكلام : وإنه لشديد حُبّ الخير ، فلما تقدّم الحبّ في الكلام ، قيل : شديد ، وحذف من آخره ، لما جرى ذكره في أوّله ، ولرؤوس الآيات ، قال : ومثله في سورة إبراهيم : { كَرَمادٍ اشْتَدّتْ بهِ الرّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ } والعَصوف لا يكون لليوم ، إنما يكون للريح ، فلما جرى ذكر الريح قبل اليوم طرحت من آخره ، كأنه قال : في يوم عاصف الريح ، والله أعلم ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَإنّهُ لِحُبّ الخَيْرِ لَشدِيدٌ } قال : الخير : الدنيا ، وقرأ : { إنْ تَرَك خَيْرا الوَصِيّةُ } قال : فقلت له : إن ترك خيرا : المال ؟ قال : نعم ، وأيّ شيء هو إلا المال ؟ قال : وعسى أن يكون حراما ، ولكن الناس يعدّونه خيرا ، فسماه الله خيرا ؛ لأن الناس يسمونه خيرا في الدنيا ، وعسى أن يكون خبيثا ، وسُمّي القتال في سبيل الله سُوءا ، وقرأ قول الله : { فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } قال : لم يمسهم قتال . قال : وليس هو عند الله بسوء ، ولكن يسمونه سوءا .
وتأويل الكلام : إن الإنسان لربه لكنود ، وإنه لحبّ الخير لشديد ، وإن الله على ذلك من أمره لشاهد . ولكن قوله : { وَإنّهُ عَلى ذِلكَ لَشَهِيدٌ } قدّم ، ومعناه التأخير ، فجعل معترضا بين قوله : { إنّ الإنْسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } ، وبين قوله : { وَإنّهُ لِحُبّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ } ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سعيد ، عن قتادة { إنّ الإنْسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ وإنّهُ عَلى ذلكَ لَشَهِيدٌ } قال : هذا في مقاديم الكلام ، قال : يقول : إن الله لشهيد أن الإنسان لحبّ الخير لشديد .
والضمير في قوله تعالى : { وإنه لحب الخير } عائد على { الإنسان } لا غير ، والمعنى من أجل حب الخير إنه { لشديد } ، أي بخيل بالمال ضابط له ، ومنه قول الشاعر [ طرفة بن العبد ] : [ الطويل ]
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي . . . عقيلة مال الفاحش المتشدد{[11955]}
و { الخير } المال على عرف ذلك في كتاب الله تعالى ، قال عكرمة : { الخير } حيث وقع في القرآن فهو المال ، ويحتمل أن يراد هنا الخير الدنياوي من مال وصحة وجاه عند الملوك ونحوه ؛ لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك ، فأما المحب في خير الآخرة فممدوح له مرجو له الفوز .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنه ، فقال : { وإنه لحب الخير لشديد } يعني المال . ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ وَإنّهُ لِحُبّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ } يقول تعالى ذكره : وإن الإنسان لحبّ المال لشديد . واختلف أهل العربية في وجه وصفه بالشدّة لحبّ المال ، فقال بعض البصريين : معنى ذلك : وإنه من أجل حبّ الخير لشديد : أي لبخيل ... وقال آخرون : معناه : وإنه لحبّ الخير لقويّ ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي ذلك الإنسان لشديد الحب للمال ، فذكر بخله وشحه في المال في ترك الإنفاق والبذل ، وعلى ذلك طبع كل إنسان على ما ذكرنا ، لكن المؤمن يتكلف إخراج نفسه مما طبع بالرياضة ، ويجتهد بالإنفاق . والحب هنا حب إيثار ، أي يؤثر لنفسه . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يعني : وإنه لأجل حب المال وإن إنفاقه يثقل عليه لبخيل ممسك . أو أراد بالشديد : القوي ، وإنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق ، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ وإنه } أي الإنسان من حيث هو مع شهادته على نفسه بالكفر الذي يقتضي سلب النعم { لحب } أي لأجل حب { الخير } أي المال الذي لا يعد غيره لجهله خيراً { لشديد } أي بخيل بالمال ، ضابط له ، ممسك عليه ، أو بليغ القوة في حبه ؛ لأن منفعته في الدنيا ، وهو متقيد بالعاجل الحاضر المحسوس ، مع علمه بأن أقل ما فيه أنه يشغله عن حسن الخدمة لربه......
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهو شديد الحب لنفسه ، ومن ثم يحب الخير . ولكن كما يتمثله مالا وسلطة ومتاعا بأعراض الحياة الدنيا . . . هذه فطرته . وهذا طبعه ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحب المال يبعث على منع المعروف ، وكان العرب يعيِّرون بالبخل وهم مع ذلك يبْخَلون في الجاهلية بمواساة الفقراء والضعفاء ويأكلون أموال اليتامى ولكنهم يسرفون في الإِنفاق في مظان السمعة ومجالس الشرب وفي الميسر قال تعالى : { ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لما وتحبون المال حباً جماً } [ الفجر : 18- 20 ] .
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
قيل : المراد بالخير المال الذي ينفتح الإنسان عليه بكل مشاعره وحواسه ، بحيث يملك عليه كل كيانه في ما تمثله كلمة الحب الشديد من حالة الذوبان الوجداني في المال ، بحيث لا يراقب الله في جمعه من الحلال ، أو في صرفه في ما يرضي الله . وربما كان المراد بالخير كل ما يحصل عليه الإنسان في الدنيا من حاجاته المادية من مال أو جاهٍ أو شهوةٍ أو لذّة ، في ما فطرت عليه نفسه من التعلّق بالأشياء المادية التي تمثل حاجاته الذاتية التي يرتاح إليها في حياته العامة والخاصة . ...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.